كل من يكتب شعر هو يتّصدى بالحب والشعر والجمال لقسوة العالم.. أنه من أكثر شعراء العرب جزالة ولم توّرثة اليمن الاّ قبراً، رغم انة ورّث الأدب اليمني صيتاً شعرياً عظيماً. إن أردت أن ترى وجة اليمن الحزين، شوارعه وفقره، عزمه وحكمته، استمع لشاعر اليمن البردوني.
هو عبدالله صالح حسن الشحف البردوني شاعر وناقد أدبي ومؤرخ ومدرس يمني تناولت مؤلفاته تاريخ الشعر القديم والحديث في اليمن وغلب على قصائده الرومانسية القومية والميل إلى السخرية والرثاء وكان أسلوب ونمطية شعره تميل إلى الحداثة عكس الشعراء القبليين في اليمن.
هذا الكفيف الذي قدم من قرية كفيفة ومن أسرة لم تعرف كتاباً أو قلماً لمئات السنين قبل مجيئه، فرض نفسه على المشهد الأدبي يمنياً وعربياً. يقول البردوني عن معايشته للعمى: «إنني قد ألفت العمى، حتى أصبحت أخاف الإبصار، ولا أظن أنني أعاني العمى لأنني أحس التعويض (بالشعر) هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الحواس ليست قيماً بشرية، فالفأر أقوى حاسة شم من الإنسان، والغراب أحدّ بصراً من الإنسان، لأن الحواس والغرائز مشتركة (بين الإنسان والحيوان) كما أن العاهات مشتركة بين الناس والحيوانات، وربما نتذكر أن عبقرية الرؤية جعلت مني فيلسوفاً، كما أن عاهة الصمم جعلت من بتهوفن فن موسيقياً عظيماً، كما أن عاهة العمى هي التي أنبتت في المعري مئات العيون الداخلية، لأن السماع بالأذان تقليدي، والرؤية بالعيون الجارحة اعتيادي، أما الرؤية بمواطن القلب، ومواهب العقل فهو اجتياز للموروث والمعتاد، فهذا العمى قد أصبح صديقاً، وجعل من الشعر أكثر التصاقاً بنفسي».
والعمى لم يمنح البردوني الحكمة وحدها، لقد أعطاه القدرة على الصبر والتآلف واعتياد الأشياء فمثلما العمى وألفه أصبحت لديه القدرة على التألق مع كثير من الأمور التي يعجز كثير من الناس على اعتيادها. ففي قصيدة «اعتيادات» نكتشف كيف اعتاد الحب واعتاد النسيان.
لم أكن (شهريار) لكن تمادت عشرة صورتك لي (شهرزادا) (كان حبي لك اعتياداً وإلفاً ... وسأنساك إلفةً واعتيادا) هو الفقير مادياً بداخل اليمن، الثري بيمنيته، لم يشاهد ما وصلت إليه اليمن اليوم لكنه تنبأ بالمندس وما حمله لليمن من تفكك وتقسيم لأرض بلقيس قال قصيدته الشهيرة الغزو من الداخل وكأنه بيننا اليوم: يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن جنوبيون في (صنعاء) شماليون في (عدن) يمانيون يا (أروى) ويا (سيف بن ذي يزن) ولكنا بزعمكما بلا يُمن بلا يمن بلا ماضٍ بلا آتٍ بلا سر بلا علن.
كلمات البردوني ليست مجّرد أشعار ولكنها رصاصات، فقصائد مثل (الغزو من الداخل) و(صنعاء الموت والميلاد) جسّدت بصيرتة ولم يلتفت لظاهر الأشياء، فالبردوني جسّد الرؤية الثقافية اليمنية وساهم برسم ملامح اليمن عند الآخرين كشعب وارث حضارات مندثرة, أن العلم المجرد من العاطفة والمرتكز على الجوانب المادية الحسية للإنسان لا يمكن أن يصنع نهضة، والعكس صحيح، فالحاجة إلى المثقف المفكر والشاعر والفنان والقاص والموسيقي ضروري ليكشف ويكتّشف الأنسان ما تفيض به روحه ودواخله الإنسانية.
د. عبدالحميد الحسامي الذي خص البردوني بجزء كبير من رسالته العلمية حول الشعر الحداثي في اليمن، فيرى أن فرداة البردوني تأتتْ من عبقريته الشعرية المتوهجة، التي تعززها رؤية واسعة فضلاً عن تقنيات بنائية ظل يعززها ويجدد فيها عبر مسيرته الإبداعية.
ويذكر الحسامي للبردوني عدداً من السمات الأسلوبية التي ميزته عن غيره، ومنها: اللغة الشعرية التي تمكّن من انتزاعها من البيئة المحلية اليمنية وإدراجها في سياق النص الشعري الفصيح، وتخصيب نصه بالرموز الإنسانية التي تمنح النص ثراءً دلالياً وتوسع أفقه الثقافي، واشتغال نصه الشعري على أسلوب المفارقة، الأمر الذي منحه طاقة جديدة، وفتح أمام المتلقي مفاجآت من شأنها أن تكسر أفق التلقي، واستلهام المعطيات السردية في النص، والشغف بالتجريب الذي لا ينبت عن الأفق الرؤيوي للشاعر.
نحن أمام طقس شعري ولغوي غير مسبوق لا في شعر اليمن القديم ولا الحديث، تركيب الجملة مختلف وتكوين الصورة أكثر اختلافاً، ولو تساءلنا هل للريح طعم؟ وهل للحصى حلوق كي تتذوق من خلالها طعم الريح؟.. لكانت الإجابة بالنفي طبعاً، ولكنه الشعر أو أنها الملامح الأولى السوريالية في القصيدة العربية تعيد تركيب الأشياء كما تراه لا بما هو عليه، وهذا جزء من نص بعنوان: «الجدران الهاربة» هاربة إلى أين؟.. هذا ما لا يقوله النص لأنه لا يحفل بأن يقول أو يرد على جواب: أقبلت كلها الدكاكين ولهى كبغايا هربن من نسف ملهى لم يعد من يجيء، جاءت سقوف فوق أخرى، واهٍ أتى فوق أوهَى كان يستفسر الغبار الشظايا: المرايا أو الجراحات أزهى؟ أي صنفي خمارة الموت أرقى؟ الأغاني أو السكاكين أشهى؟ أقبلت كلها العمارات عجلى تتمطى مخبزاً، وتجتر مقهى ترتدي آخر الأناقات، لكن مثلما تدعي الفطانات بلها كاد يبدو أسفلت كل رصيف ركبة تحتذي ثمانين وجها والذي يبتدي، بلا أي بدء والذي ينتهي، إلى غير منهى تلك هي الملامح الحداثية في شعر البردوني كما حاول أن يقدمها باقتضاب قراءة أولية لهذه الملامح الفنية بالمعاني والصور الجديدة والمحرضة على الأخذ بأسباب التحديث ومقاومة الجمود الشعري، وما من شك في أن ثقافته التراثية العميقة قد ساعدته على التحرر من أشكال الوعي المسبق بالتركيب البنائي للجملة الشعرية وعدم الخوف من تهمة الحداثة إيماناً منه بأن هذا المصطلح ليس جديداً ولا طارئاً مستورداً من وراء البحار كما يتوهم التقليديون ودعاة الجمود يقول علي الجندي في تقديمه لديوان البردوني المسمى (من أرض بلقيس): (إنه- أي شعر البردوني- بعيد عن التقليد، مستقل بمبانيه ومعانيه، لا تستطيع أن تقول إنه متأثر بشاعر آخر، أو أنه نموذج مكرر لقديم أو محدث، اللهم إلا لمحات هنا وهناك، تدل على أنه ذو نسب قريب بالعباس بن الأحنف، وإبراهيم ناجي، وأبي القاسم الشابي، وإنه يجري في حلبتهم دون أن يكون ظلالاً لهم أو صورة منهم).
قصيدة بعنوان «سندباد يمني في مقعد التحقيق» من أروع قصائدة وردت في ديوان «وجوه دخانية في مرايا الليل»تقوم على صوتين: صوت الأنا الشاعر، وصوت الآخر، المحقق، ويمكننا أن نقراها عندئذ على النحو الآتي: كما شئت فتش... أين اخفي حقائبي.. اتسألني من أنت؟.. أعرف واجبي أجب، لا تحاول، عمرك، الاسم كاملاً ثلاثون تقربياً..
(مثنى الشواجي) نعم، أين كنت الأمس؟ كنت بمرقدي، وجمجمتي في السجن في السوق شاربي نموذج القصائد التي تجسّدت فيها الأسئلة لدى البردوني لها وظيفة بنائية محددة، تتجلى في نسق القصيدة وإن ظلت مجسدة لحمولتها الدلالية، والنموذج البنائي الأول يتمثل في القصائد التي تستهل بالسؤال ليعود السؤال فيبرز في نهايتها وكأنه يدور في فراغ، ومن ذلك قصيدة «فراغ» من ديوان «وجوه دخانية في مرايا الليل» حيث تبدأ هكذا: ماذا هنا أفعله؟ يشغلني.. أشغله أعطيه نارَ داخلي ما عنده يبذله يجرحني، أحسه يشربني آكله يمتصني، أذيبه يحرقني، أشعله كانت اليمن هي همّه ومأساته وخوفه، كان يراها كما لم يرها يمني آخر، مطمع للمحتل والمندس.
اليوم (صنعاء) وهي متخمة الديار بلا أهالي يحتلها السمسار، والغازي، ونصف الرأسمالي والسائح المشبوه، والداعي وأصناف الجوالي من ذا هنا؟ (صنعاء) مضت واحتلها كل انحلالي.
يقول الأستاذ هشام علي بن علي: دعاني الشاعر الراحل محمد سعيد جرادة لشرب الشاي في مقهى صغير في شارع جانبي في التواهي، فحين اخبرته بأن هنالك مقاهي أخرى أجمل من هذا المقهى، أجاب باعتزاز يكفي أنه يحمل اسم البردوني.
إنني أشعر أنني أشرب الشاي بصحبته في هذا المكان.
وهذا دليل أن البردوني زرع له مكان في قلب كل شريف يمني قرأ الشعر..
فاليمني الحديث يطمح ويتمنى ان تنتج أرض اليمن العريق السعيد بردوني ثاني وثالث ورابع.. لا حوثي ثاني وثالث؟!
أحلام الفهمي - الدمام