عند الحديث عن المتنبي وعلاقته بالسلطة، فمن الطبيعي أن نبدأ بعلاقته بسيف الدولة، إذ كان لها أثر كبير في تبلور تعاطي المتنبي بعدها مع أي خليفة أو أمير، خاصة أنهما (المتنبي وسيف الدولة) ارتبطا بعلاقة صداقة بحكم تقاربهما في السن، وكذلك لأن المتنبي وجد في سيف الدولة النموذج الأكمل الذي يجب أن يكون عليه الخليفة، كما أن المتنبي لم يقبل أن يلقي قصائده بين يدي الحاكمِ كما يفعل الشعراء بل كان يلقيها قاعدًا، اعتدادًا منه بذاته وبشعره، ولثقته بأنه جدير بأن يكون ندًا لسيف الدولة-دون أن يعني ذلك كونه خصمًا- وهو بهذا كسر التقليد الذي اعتاده الشعراء حين يكونون بين أيدي الأمراء والولاة. وحتى حين غادر بلاط سيف الدولة فعل ذلك لشعوره بالألم لإهانة الأمير له على مرأىً من خصومه، ما يعني أنه رحل بمحض إرادته دون أن يكون مطرودًا أو مغضوبًا عليه كالنابغة الذبياني مثلًا ولهذا لا نجد للمتنبي اعتذاريات يظهر فيها خضوعه ويتوسل رضا الأمير.
وإن كان هذا هو شكل علاقة المتنبي بسيف الدولة-مثاله الأعلى-فإنه من الطبيعي أن تكون مختلفة مع كافور الذي سعى هو للاتصال بالمتنبي بعد أن عرف أنه ضمن الأراضي الإخشيدية فدعاه إلى مصر، وحتى بعد أن وصلها لم يفد على كافور أو يمدحه مباشرة، بل بعدما أرسل له الإخشيدي العطايا والهبات، أي الثمن المناسب الذي يستحقه شعره الذي يعتد به كثيرًا. وإن كانت صلة المتنبي بسيف الدولة قائمة على الحب والإعجاب، فإنها مع كافور تتخذ شكلًا نفعيًا قائمًا على المصالح المشتركة، فكافور يريد الشهرة التي سيحققها له المتنبي والمتنبي يرغب بالولاية. ترى سوزان بينكني ستيتكيفيتش في كتابها القصيدة والسلطة ( ترجمة حسن البنا عز الدين عن المركز القومي للترجمة 2010) أن قصائد المديح في الشعر العربي هي نمط من أنماط التبادل المنظم وتميل إلى إدراجها تحت نظرية مارسيل ماوس في كتابه الهدية بما أسماه التبادل الطقوسي إذ يقول:» بين الأتباع والرؤساء، يتأسس التسلسل الهرمي من خلال الهدايا، فأن تعطي يعني أنك تكشف عن علو مكانتك، أن تظهر أنك أكبر وأعلى، أنك فعلًا أعظم، أما أن تقبل هدية دون رد مكافئ لها أو أعظم منها فيعني أنك تلتزم بالطاعة، أن تصبح مرؤوسًا وتابعًا، وأن تصبح أدنى» ولعل هذا يصدق على ما حدث بين المتنبي وكافور الإخشيدي.
في قصيدته البائية:
منىً كنّ لي أن البياضَ خضاب
فيخفى بتبييضِ القرون شبابُ
يبدأ المتنبي بمطلع يمدح فيه البياض (بياض الشعر) ويذم السواد، وهو ما وجد فيه الشارحون تعريضًا ضمنيًا بكافور ومدح سيف الدولة حتى أثناء فترة التوتر، الأمر الذي يؤكد أن المتنبي مدح كافورًا كمقابل لوعده له بالولاية -الذي تراجع عنه فتراجع المتنبي عن كل ما قاله في هجائيته الدالية للإخشيدي- وقد يثبت هذا قوله:
غنيٌ عن الأوطان لا يستخفّني
إلى بلدٍ سافرت عنه إيابُ
وأظن هذا هو مفتاح تفسير علاقة المتنبي بالسلطة، فهو لا يرتبط بأي بلاد ولا أي سلطة، ويستطيع أن يرحل في أي وقت-خاصة إن عرفنا أن هذه القصيدة هي آخر ما قاله المتنبي في مدح كافور-دون أن ينتظر إذنًا من خليفة أو أمير فهو وحده صاحب القرار، وقد فعلها سابقًا ورحل عن سيف الدولة أميره الأحب، فليس رحيله عن كافور ببعيد. ولم ينس الشاعر أن يذكر الإخشيدي بحاجته ووعده الذي قطعه له في قوله:
وهل نافعي أن ترفعَ الحجبَ بيننا
ودون الذي أملت منك حجابُ
وهو بيت فيه شدة في خطاب أمير إن لم يكن سخرية، فما فائدة وصله بكافور إن كان لم يعطه مراده بعد، ويتبعه بإقلاله الوفود على كافور، وهو ما يظهر حقيقة شعوره تجاهه وأنه لا يراه أكثر من سلم أو جسر يعبر به نحو حلمه الذي « جل أن يسمى»! رغم أنه حاول تلطيف هذا الخطاب قليلًا حين قال إن مدحه ليس رشوة، فهو لا يحتاجها، إنما مدحه نابع عن حب! ويعود ليؤكد في البيت قبل الأخير من القصيدة أنه يستطيع الرحيل في أي وقت وما بقاؤه إلا من أجل كافور ولعله كان يعني من أجل وعده، الذي لم يكن أكثر من «برق سحابةٍ لم تمطرِ»!
بثينة الإبراهيم - القاهرة