من عيوب البحث اللغوي سماحه لأسئلة عبثية من مثل: هل هذا تعبير فصيح وهل وردت هذه الصيغة في لسان العرب، أو هل هذه المفردة فصيحة أم عامية، وهل لها أصل فصيح.!
هناك مشكل معرفي يثوي خلف هذه الأسئلة وخلف كل إجاباتها (طبعاً سيقولون لي قل: خلف إجاباتها كلها.! حسب قانون قل ولا تقل، وهو من أغبى قوانين عصرنا)، والمشكل المعرفي هو أن هناك حساً مبيتاً أن المفردة الصحيحة هي ـ فحسب ـ تلك التي نطقها شخص ما قبلنا، ولذا يهرع الناس لنبش كتب التراث علهم يجدون أثراً للكلمة في سالف الزمن لكي يجعلوا ذلك سلم نجاة تؤهل الكلمة لتكون في معجم النخبة الصالحة، فإن لم نعثر على سابق لنا يشفع لها فهي حينئذ ستظل في الحضيض الثقافي تحت وصمة أنها عامية وليست من الفصيح.
يكفي أن نتتبع التراث اللغوي في العصر العباسي ونجرب أن نطرد منه كل كلمة أو صيغة لم ترد عند من سلفهم من عصور.! كم سيبقى من معجم لغة العباسيين في قائمة المعترف به.! ثم لننظر في عصرنا هذا، ولنفترض أننا نملك القدرة اليوم على تقييد حركة الناس مع مفردات لغتهم..ولننظر ما سيحدث لفنون الرواية والمسرحية والدراما وتحليلات السياسة والاقتصاد، وهذه كلها عناوين ومضامين ستكون غير فصيحة لأنها لم ترد عند أسلافنا، ولو جاء الجاحظ اليوم لاستعصى عليه فهم تعبيرات توريقتي هذه، ولكنه لن يقول عني إني عامي اللسان وركيك الأسلوب، وله الشكر مني في ظهر الغيب لأنه ليس بغباء لغويينا المعاصرين الذين يصرخون في فراغات الثقافة والتضليل العلمي حين يسوقون للفهم القاصر بأن الصحيح والفصيح هو ـ فحسب ـ ما نطق به شخص ما قبلنا وورد في أثر ما في كتاب ما أو مروي ما ... ويظلون يغذون طلاب اللغة بهذا التضليل العلمي المناقض للمنطق أولاً وللواقع ثانياً، لا يوجد كاتب مبدع ولا متحدث مثقف يسمح بتسليم لسانه وقلمه للتضليل اللغوي والمفاهيمي.
ولا بد أن نشير إلى أن الفارق الجذري بين الفصحى والعامية هو النحو المعتمد في الفصحي ولو أخرجت إحدى الجمل العامية من نظامها النحوي العامي ثم طوعتها للنظام النحوي الخاص بالفصحى لصارت فصيحة، أي أن كتابتها أو نطقها حسب النظام النحوي المعين هو ما يقرر صفتها وليس سابق سيرتها عند سلف سابق لنا، كما أن المفردة بذاتها لا تعني أي شيء خارج سياق الجملة الواردة فيها والذي يوجه معناها هو تآلفها مع مفردات أخر لتشكيل معنى مشترك بينها، كما أنها ستظل معلقة في الفراغ الدلالي إلى أن تتصل بغيرها وتتشارك في صيغة دلالية ونحوية تمنحها موقعاً في الجملة، ومن هنا فلا معنى أبداً أن نسأل عن مفردة ما وهل وردت في الفصحي (صيغة أو معنى) تحت مظنة أنها إن لم ترد فهي في حكم المنفي، ولن يكون هذا علماً، إنما هو تضليل علمي.
والخلاصة العلمية والعملية هنا أن المفردة، أي مفردة، (أو صيغة) إذا دخلت في الاستخدام العام فهي بالتالي عنصر لغوي تبعاً لكون اللغة قيمة تداولية وتشاركية، وبالتالي ستتوثق المفردة بصيغتها الصرفية وبحالتها الدلالية كما تشيع في الأقلام والألسنة وهذا تحصين ظرفي لها، وأي محاولة لطردها من المعجم اللغوي التداولي ستكون ضرباً من إيهام المرء لنفسه ولن ينتج عن هذا سوى الخوض في منطقة الهدر الثقافي لأن لا أحد سيسمع منه، أما قاطرة اللغة فستتركه عند المحطة الأولى، وضحايا هذا دوما هو طلبة اللغة الذين يظنون أنهم بهذا التوهم يحرسون لغة الضاد، في حين أنهم يقحمون أنفسهم في مصارعة مع طواحين الهواء.