قصص المجموعة تؤصل فكرة النصوص المتوامضة
يستحث القاص زكريا العباد في مجموعته القصصية «وجوه» خطو الشخوص والأبطال ليكونوا أكثر حضورا في ذاكرة السرد، وليحمل كل واحد منهم مهامه الخاصة به، لتجد هؤلاء وقد نشطوا على نحو فريد، ليتفاعلوا مع أحداثهم وأدوارهم التي أعدت لهم بعناية فائقة من قبل الراوي، ليصوروا لنا العلاقة الجدلية بين الإنسان ومن حوله ولاسيما في لحظات التماس بين قطبي الحياة المرأة والرجل الذي تجده مبثوثاً في فضاء القص وعلى نطاق واسع من حكاياتهم المتنوعة.
أمر آخر في المصافحة الأولى لهذه القصص يمكن أن يلتقطه القارئ وهو المتمثل في الاقتضاب في عرض تفاصيل الأحداث، مما يعزز وجود رؤية سريعة تؤطر الفكرة التي يريدها القاص من وراء سرده لهذه المشغولات الحكائية ببراعة وحرص واضح على توزيع الأدوار في منظومة البناء القصصي في هذا العمل.
فالراوي في القصة الأولى (سجن الصورة) من هذه المجموعة يستهل أحداثها وتفاصيلها في بناء المفارقة بين عناصر الحياة، لتكتمل في سياق هذا النص المتوامض فكرة الحب والكره، والسواد والبياض، والعطور والعفن، والحضور والنسيان، والقبح والجمال .. فكل هذه المفارقات تجتمع في صورة العلاقة بين رجل وامرأة تجمعهما الذاكرة على إطار صورة تحنط ذلك الوجه الذي بات يغيب، ولم يبق منه سوى ذكريات تتنازعها حالات الفقد والتيه، لتكون بالفعل مدخلاً حيوياً للنصوص، وإشارة ضمنية ما للاسترسال حالة المفارقة كبناء منطقي للأحداث، وأدوار الشخوص في هذه القصص المعبأة برؤى المكان والزمان.
عناصر السرد في قصص العباد تأخذ تفاصيلها وتمثلاتها من حالة الالتقاء بين حيزي الزمان والمكان كعنصر مؤثر وفاعل في النصوص.. فالعباد يعتمد في سرده للأحداث على قاعدة مكانية تنطلق من التقاء الشخصيات بعضها ببعض، لتكون أحداثا ناجزة يستشعر فيه القارئ أهم الحقائق المؤثرة على نحو امتزاج الواقع بالمتخيل في نص واحد وسمه بعنوان (وجوه) وهو ليس ببعيدٍ عن هذا النمط المعتاد لتمام الفكرة في حدثين منفصلين، إلا أنه يبرع في مقاربتهما إلى بعضهما ليكونا أمام القارئ برؤية واحدة وان اختلفت العناصر والمكونات، وزوايا الرؤية.
عنصر الحكاية مؤثر وفاعل في نصوص هذه المجموعة، إذ يتكئ القاص كثيرا على كم هائل من الصور الحكائية المعبرة في حياتنا الاجتماعية المعاصرة، فهو الذي يسعى إلى تدوين أوجه العلاقة بين حياة قديمة وواقع متحول، رغم أنه يميل إلى التقاط مفردة الخطاب القديم على نحو ما ذكره في قصة « جولة في مكان قديم» حينما استعرض تفاصيل العمر بشكل بانورامي سريع، يؤصل فكرة النص المتوامض حيث لا مجال للاستطراد أو الاستفاضة في صنع حكاية المكان الذي بات يؤثثه من جديد، ليتخلص وفق هذا النص من منغصات وأوهام كثيرة في حكاية الماضي وتراكمات التجارب، ليكون النص لحظة تنوير صادقة تبني رؤية مفادها بان العمر كالشجر أو النخل لا بد من تحسينه وترتيب مظهره ليكون مقاوماً للفناء أطول مدة ممكنة.
بيئة القصص في هذه المجموعة تدور حول حياة الإنسان البسيط .. ذلك الذي لم يتحول بعد إلى حياة مادية مترامية، فهو في صراع مع دورة الحياة، لأن القاص العباد يستشعر فكرة النص ويتمثلها من خلال رؤية واقعية وتجارب جديرة بالتدوين، والتداول.. فهي الحكاية التي يستخلص منها القارئ رؤية الزمن المتحول في بيئة الحياة التي لم تعد متماسكة في أطرها المعنوية القديمة، إنما باتت تسير نحو تحول مقلق يستشف من الكاتب رؤية صادقة بأن الحياة حينما تتمثلها أو تستعيد بعض تفاصيلها القديمة حتما ستلفيها وقد باتت أكثر تطرفا وانحرافا. فلا فرق بينها وبين حكاية الزمن الذي نعيشه الآن، لأن المعاناة تنطلق من مصدر واحد هو الإنسان المعذب الذي لا يزال يعاني منذ أن جاء على هذه الأرض حتى يلجها جثة هامدة.
فالشخوص في هذه النصوص مدربون تماماً على قول الحقيقة وتمثل الواقع، ومعرفة المآلات الممكنة لحياتنا المعاصرة.. تلك التي حولها القاص العباد إلى أيقونات أسئلة مهمة وجوهرية يمكن للقارئ أن يكتشف من خلالها الكثير من الإجابات المحتملة، لتكون القصص محققة لمعادلة المتعة والفائدة في هذا السياق السردي المتميز.
إشارة:
وجوه (قصص)
- زكريا العباد
- أدبي المنطقة الشرقية - الدمام - 2014م
- تقع هذه المجموعة في نحو (78صفحة) من القطع المتوسط