إلى عائدة! (1)
يَا وَجْهَ أُخْتِيَ يَمْضِيْ، وَهْيَ عَائِدَةُ
لِلطِّفْلِ.. فِيْ كَفِّهَا النَّعْنَاعُ وَالْحَلْوَى
أجلسُ إلى الصباحِ على طرفِ كتابةٍ وحزنٍ شفيفٍ، لا يعطّلُ بل يضيف، وهو حزنٌ يعيشه الجميع، ويميزه أهل الألوان والأنغام والحروفِ حين تنهمر أمطارُ الروح مستعجلةً يدَ التدوين. أتأملُ فتظهرُ لي أسماء ووجوه الأهل والعواصمِ والأصدقاء أقماراً ونجوماً على شاشات عرضٍ زاهيةٍ كبيرة، فأستعيدُ نهراً تتلألأ على صفحته الذكريات والقصائد والأغاني القديمة التي لا تموت، أغاني أهل الجزيرةِ العربية التي ما اعتُني بها كما يليق بعمقها وعبقريتها، بل شُوهت وقتلت على أيدي الباعةِ العجلين، أو على يد من لا يفهمون قيمة التراث والشعوب!
أجلسُ إليك اليوم يا عائدة لأفتح لك قلبي فأنت لا تقاطعين حديثي، لا بالأمس، ولا اليوم بالضرورةِ يا سيدة الغياب، وإن كنا نحن من كان يقاطعك بادعاءات المعرفة وأنت الحكيمة فينا كوالدنا الحبيب، ولعلّك اليوم بسماحتك المعتادة التي ألِفتُ وربّتني على التريث والقبول، تتركيني أواصل علاج روحي بالبوح كما كنتِ دوماً، دون نظراتِ تعجبٍ أو اتهام، دون محاكمات مبنيّة على الشك والريبة أو الأوهام، أو الآراء المسبقة، نظرات أهل اليوم المتعالمين المتناقضين أصحاب الأقنعة، وأزعم أنها هي نفس نظرات الجهلة من منظّري تويتر من كافة المدارس والمغارس، والساسة العاطلين في المقاهي الغربية الغريبة، والمحققين في كل مكان في العالم.
الريبة هذا القتل المستتر. الريبة هذا القتل المستمر.
كم أحب الحديث معك، وإلى حنطةِ وجهك الذي فتحت عينيّ عليه منذ الطفولةِ الأولى، وإلى عينيك اللامعتين بالذكاء والفطنة العربية، عيناك اللتان لا تبوحان إلا بالطيبة:
طيبة الأرض، وطِيبةِ طَيْبَةَ وأهلِ طَيْبة الطيبين، وطِيبة الطائف وأهلها وأشجارها، هكذا أراكِ عندما يقترن النخل بالعنب والرمان، كما في القرآن، هذا المزيج الذي شكّلك فريدةً نادرةً في الشجرِ والبشر، فلكِ الجنة كما كنتِ لنا جنات نعيم..
وطِيبةُ الأقارب، وطِيبةِ الأنصار، وطِيبةُ الغرباء عندما يدخلون في وطنٍ جديدٍ ليؤسسوا وطنهم الحلم، كذاك الذي سُلبوه، كما لدينا في حجازنا..
وطيبة الأمّ، الأمّ يا عائدة، فما عرفتُ غيركِ أمّا.
لم أكن أنا لأسبوعين كاملين. غبتُ عن الناس وعني، حتى صرت لا أعرفني، مرضت، وتعبتْ روحي، ولم يكن من طاقةٍ لنزفِ قصيدةٍ أو عزفِها، أو صوتٍ يشبهني للاتصال بصديقٍ سيقول لك سلامتك قبل أن يسمع ما لديك، فيؤكد لك أنك متعب بالفعل، وأنت لست بجاجةٍ لشاهدٍ أو دليل.
لا تسألي، فعيناك تسألان ما بك يا محمد، وما الذي حدث!
الناس.. الناس يا عائدة.. الناسُ والقتل!
لن أحدثك هنا عن الحروب التي تقطع أوصالي، أعني أوصال أمتي، واختارها الناسُ والأحزاب والتنظيمات علاجاً باسم مصلحة الناس! أي باختصارٍ شديدٍ قتلُ الناس والأوطان لمصلحة الناس والأوطان، ومنها ما سموه الربيع تبجّحاً! يا للخيبة، بل يا للخيبات!
لن أحدثك عنها، عن أسبابها الحقيقية، فقد تعبت من الكتابة والحديث عنها، مضى العمر وأنا أكتب، وإني لناصحٌ أمين، لكن لا فائدة، وستظل كتاباتي وقصائدي شهادات للتاريخ، أو محطات جمال وأمان للزائرين والعابرين والغرباء أمثالي.
ولن أحدثك عن الإرهاب فجذوره الضاربة في الجهل والكراهية والغل والحقد والظلمة والظلم والقتل، ومصادر ريّه وتغذيته معروفة، والدين رحمة، الإسلام رحمة وهو خضوعٌ لله وانقيادٌ لا تمردٌ على البلاد والعباد، وعنادٌ واضطهاد، والله رحمن رحيم، ومحمد عليه الصلاة والسلام، لاحظي السلام هنا، نبينا العربي الأمين نبي رحمة، فكيف أصبحنا أهلَ قتلٍ وفتنةٍ ونقمة؟! ولا عن الطائفية التي تنحرنا نحراً، وتشوه جمال ديننا وأخلاقنا ونسيجنا، فما أظنك تعرفينها، وقد عايشتك وأعلمُ أنكِ ما سمعتِ بها، ولا أنا سمعتُ بها وشاهدتها عياناً بياناً حتى بعد وفاتك بسنين!
الناسُ تقتلُ منذ هابيل وقابيل، لكن الجديد أنها تحترف وتستهوي وتستمرئ القتلَ هذه الأيام، لا تتعبُ ولا تتوب ولا تندم، حتى الذين لا يقتلون بأيديهم فعلاً، حتى الجمهور البعيد من العامةِ أصبح يُطربهم قتلُ الآخرين كالأغنيات والأمنيات العذبة..
أو أنهم حتى لا يبالون إن أُرِيق دمٌ أو أهدِرت كرامة! يا للإسلام ويا للعروبة!
يا الله!
حين أفكر عميقاً، ونحن في زمن القتل هذا، أجد أنه حتى حبنا يقتل:
إنّ العيون التي في طرفها حورٌ
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا!
وهنّ يقتلنَ ويصرعنَ ذا اللب حتى لا حراك به، لاحظي الفتك، مع أنهن الأضعف والأرق في البشر، وفي جسم الإنسان.
أما اليوم فالجميع يقتل، القوي والضعيف! بالعين واليد واللسان يا حبيبتي!
يقول اليمانيّ:
«قتلتني بلا سلاحْ
وادعتني لها شهيدْ!»
إلى أن يقول:
«واْنتْ يا حاملَ السلاحْ
ما مَعَكْ ت حمل الحديدْ؟!»
لن أشرح لك البيتين، فأنت ذكية، كل ما عليك هو قراءة أغنية « جلّ من نفّسَ الصباحْ» وستفهمين!
ونعم، لقد عنيت قراءتَها لا سماعَها، ويعجبني فيما يعجبني في أهل الكوفة والبصرة أنهم يقولون: قراءةُ المقام، لا غناءه، وفي هذا جمال!
وقتلُ العيون والغيد والحبّ لا غول فيه ولا دماء، بل هو خيالٌ ملوّنٌ بألوان العشق عبر العالم والتاريخ إلا الاستثناءات الأسطورية كحالةِ ديك الجنّ الحمصي مثلاً:
يا طلعَةً طلعَ الحِمامُ عليها
وجنى لها ثمرَ الرّدى بيديها
رويّتُ من دمِها الثرى ولطالما
روّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
الناسُ والقتلُ يا عائدة!
كنتُ بخيرٍ حتى قتلني الكلام، والكلام يقتل.. والكلمة تزرع الأرض بالحب والجمال السلام، والكلمة تُشعل النعرات والثارات وتورد البشر جحيم الدنيا والآخرة.
وأنا الشاعر يا أختي أعرف الكلام وأعرف مقام الكلام، وأخاف، وأحذر من الكلام.
لكِ مني الدعاء والسلام حتى رسالتي القادمة عن الكلامِ مع شهر الصيام.
- الرياض
mjharbi@hotmail.com