الحياة والموت فلسفة في ذاتهما، توهب لنا الحياة لنتعلم من خلالها المعرفة ويقدّر علينا الموت لنتعلّم الحكمة ومابين المعرفة والحكمة معتقدات مختلفة الألوان.
تميل الطبيعية السوية إلى «حب الحياة» ولعله ميل مقدّر لتمكين الإنسان من «عمارة الأرض» و»استثمار قدراته وطاقته على العطاء والشراكة والتآلف مع الآخرين» في تحقيق فاعلية وقيمة تلك العمارة.
ميّل مقدّر لتستقيم شؤون الدنيا،و لتقسيم معه عدالة ومساواة فرص قياس أعمال وأفكار، ولتستقيم معه حق الإنسان في الاستمتاع بالحياة الآمنة دون أن يقوم آخر بانتزاع ذلك الحق أو تهديده أو امتلاك قرار إحيائه أو إماتته.
وما يتجاوز ذلك الميل «بضدّية» مخالفة للأصل، وماهو متجاوز عن أصل الميل هو الجدير بالتركيز عليه.
تحدثت مطلع هذا الموسم عن «عقيدة الموت» من خلال موضوعات»الهُبليون الجدد» وهانا أجد نفسي نهاية الموسم أختم بذات الفكرة مواكبة بما حصل في مسجدي الإمام علي بن أبي طالب في بلدة «القديح» و»العنود» في مدينة الدمام.
وقلت « إن العقيدة التي تستعمر العقل هي «وثنية»، ومتى ما تحولت العقيدة إلى وثنية فقدت عقلانيتها وتحولت إلى قوة وحشية وهمجية، لأن علاقة الفرد داخل تلك العقيدة الوثنية عن خارجها تتجاوز وجوبيات التعايش المشترك إلى علاقة صراع مع الآخر، موت مقابل حياة أو وجود مقابل إلغاء وفي نفي مخصوص لعلاقة التماثل والتبادل والتوازن.»
تلك العقيدة التي تربي أتباعها على ثقافة «الفكر الانتحاري» وأن من يختلف معي أو يُخالفني لا حق له سوى الموت.
إن فكرة «أن تموت من أجل الآخرين» أو أن «تقرر أن تموت من أجل الآخرين» ليست فكرة طبيعية في ذاتها أول فلنقل ليست «عادية في ذاتها»،ولذا عُدًت التضحية بالنفس من أجل الآخرين «بطولة»؛لأنها تتجاوز العادية، لأنك تُضحيّ بحياتك من «أجل حياة الآخرين» وهذا هو «معيار قيمة التضحية» المحافظة على حياة الآخرين،الدفاع عن حياة الآخرين، حماية حياة الآخرين.
ولذلك ليس كل «تضحية بالنفس « بطولة.
وهنا تتحكم القيمة في تحديد ماهية التوصيف من عدمه،سيقول البعض أن معايير التحكم في توجيد قيمة أو نفيها غير ثابتة الصدق وعدم الثبات ذلك يضر بسلامتها المعيارية ويٌدخلها متاهات الاختلاف والخلاف.
و في هكذا وضع يظل «الاتفاق» معيار مًوحّد «لتوجيد قيمة من عدمها».
صحيح أن «الاتفاق» أو «التوثيق الجمعي» لقبول فكرة أو رفضها هو مُعطى «حيوي» لبناء معيار يتصف بسلامة ثبات معقولة،قد يتعرض لاحتيال أو تزييف .
لكن خط الموضوعية الضامن هاهنا أو ما يضمن موضوعية تخلو قدر الإمكان من شوائب الاحتيال أو التزييف أو المتاجرة بفكرة التضحية هو بعد «التضحية» عن «الانتحار» و»قصدية الضرر بالآخر».
وهو ما يُفرق بين «بطولة التضحية» و»إجرامية قتل الآخرين من خلال انتحار النفس» لأجل «معتقد وثني».
فأي تضحية تتعمد الأذى والضرر بالذات أو بالآخر هي جريمة وليست بطولة، وأي تضحية تسلب حق الذات في الحياة أو سلب حق الآخرين في الحياة هي جريمة وليست بطولة، وأي تضحية تهدف إلى نشر الخوف والإرهاب بين الناس هي جريمة وليست بطولة،وأي تضحية تهدف إلى فرض أحادية عقديّة هي جريمة وليست بطولة.
فالتضحية هي «منح الآخرين قيمة العطاء والأمن والمحبة والسلام» ولذلك عّدّت «روح البطولة».
كرم الله الإنسان عن سائر المخلوقات «بالعقل» وبذلك العقل استند الوحي الإلهي لتمييز الإنسان بين الحق والباطل والخير والشر والنفع والضرر، وتقويم الأفكار والأفعال،ومقاومة «ميراث التوثين».
ومن أجل تلك الكرامة التي مُنحت للإنسان عبر قيمة التعقل والعقل،ذم النص المقدّس كل إيمان مطلق يٌعادي العقل أو لا يوافقه كما ذم كل عقيدة تسلب من الإنسان قيمة عقله وتربطه بعبودية وثن أو فكرة أو عادة أو طقس أو شخص؛لأنها مهلكة للمرء. و ذّم كل عقيدة تدعو إلى استباحة ذات الآخر وحياته وماله وتحرض على كراهية الآخر وقتله والانتقام منه لمجرد اختلاف العقيدة أو المذهب.
لكن ما يحدث عادة مخالف ما يجب أن تكون عليه الأشياء والأمور؛لأن الشيطان هو قدر موازي للإنسان؛القدر الصانع للشر،القدر الذي يصنع من رجل الدين الفاسد إلها ومن القاتل بطلا،القدر الذي تحدى الإله الحق لنشر الفساد في الأرض وجرّ الإنسان إلى التهلكة.
تبدأ كل الحكايات من أصل الحكاية الأولى» أنا خير منه»؛ خيّريّة صنعت الشر والظلم والطغيان والجبروت ووهم الأحادية المثالية بالتكامل والتفاضل.
خيريّة وهمية أعطت للأنا الفاسدة حق التحول إلى إله يُحيي ويميّت،خيرية وهمية باعت أناها للشيطان ليوهمها بأحادية خالدة من أجلها تُلغي الآخر وتسلب حقه في الحياة والشراكة وحرية المعتقد.
إننا اليوم نجني الثمار الفاسدة لخطاب ديني متطرف طويل المدى صنع قادة التطرف والإرهاب المتحكمين اليوم في مصير المئات من الشباب والذين تحولوا إلى «آلهة».
أليس كل قادة الإرهاب والتطرف اليوم الذين أسسوا ويتحكمون في الحركات الدينية المتطرفة هم حاصل «الخطاب الديني السني المتطرف»؟.
أليست الرؤية التطرفية نحو الشيعة باعتبارهم كفارا التي نجني اليوم ثمارها هي من صناعة «الخطاب الديني السني المتطرف» ؟، أليست «التوصيفات التكفيرية للفقه السني المتطرف نحو الشيعة» والتي أسست ثقافة الكراهية نحوهم هي من صناعة الخطاب الديني السني المتطرف؟ أليست الفتاوي التي تحلّ دم الشيعيّ كونه كافرا هي حاصل الخطاب الديني والمدونة الفقهية السنية المتطرفين؟.
أليست ثقافة الكراهية الذي ظل الخطاب الديني السني المتطرف بمعية توصيفات المدونة الفقهية المتطرف هي التي انتجت اليوم «الفكر الانتحاري»؟.
لذا يجب أن نواجه أنفسنا بدلا من أسلوب «دفن الرأس في التراب» وتحميل غيرنا المسئولية وتبرئة أنفسنا .
وأن نستقصي أصل «ثقافة الكراهية والتكفير» تلك الثقافة التي صنعت «الفكر الانتحاري» تحت مظلة «الجهاد في سبيل الله ومحاربة الكفار».
إن ما حدث في مسجدي»الإمام علي بن أبي طالب» و»العنود» ليست حالة طارئ ويجب أن لا نفسر الأمر كذلك؛إنها ثقافة كانت تتكون من وراء ظهورنا ومن تحت أقدامنا برعاية الخطاب الديني المتطرف الذي زجّ بمئات الشباب إلى نار أفغانستان ليُؤسسوا «القاعدة هناك» وذاته الخطاب الذي زجّ بمئات الشباب إلى سوريا والعراق «ليُؤسسوا داعش» و»تنظيم الدولة المتطرف»،وغيرها من الحركات الدينية المتطرفة.
وهذا الزّج بالشباب في متون العنف والقتل والتدمير وتحريفات دلالات الجهاد مع خطاب متطرف داعم لأفكار الكفر والكراهية والعداء نحو الآخر المخالف للعقيدة أو المذهب،مع غياب لخطاب مواز مقاوم لتطرفية ذلك الخطاب هو الذي نجني منه اليوم «ثقافة الفكر الانتحاري».
إننا اليوم نقف كمجتمع على حافة الخطر «و محاولة حقيرة لجرّ المجتمع إلى «فتنة طائفية» والتلاعب بسلامة السلم الاجتماعي.
و حتى نقطع الطريق على كل المؤامرات التي تُحاك في الخفاء، فنحن نحتاج إلى قرارات سياسية وقانونية حازمة تُجرّم كل خطاب وفتوى وفكرة تروّج لثقافة الكراهية أو التكفير نحو الشيعة، كما نحتاج إلى إعادة هيكلة أسس الخطاب الديني ،هيكلة لا يقترب منها «قدماء صنّاع الخطاب الديني المتطرف» ؛لأن من يصنع المشكلة لا يُمكن أن يحلها.
كما نحتاج إلى تنقيح المدونة الفقهية السنية من كل الأفكار التطرفيّة أو الأفكار الداعمة لمحاربة الشيعة وتصفيتهم.
رحم الله شهداء مسجدي الإمام علي بن أبي طالب والعنود وألهم أهلهم الصبر والسلوان».
« وحمى الله أرضنا المقدسة من كل شر وفتنة، وبارك الله لنا في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده وولي ولي عهده».
- جدة