يثير الانتباه كثيراً التظاهرة التي نظمها عدد من المثقفين العراقيين وبخاصة الشباب منهم محتجين على قرار التقشف الذي أصابهم قبل غيرهم. فالمثقفون الشباب إما عاطلون عن العمل ينتظرون بفارغ الصبر المنحة الأدبية والفنية البالغة ما يعادل ألف دولار أمريكي وتقدم لهم سنويا!، أو يبحثون عن مهنة في الصحافة التي هي الأخرى مهددة بالتوقف بسبب عدم وجود دعم مالي وإعلاني وعدم شراء الصحف حيث باتت القراءة عبر النت والمواقع الإلكترونية!
الفنانون، دائرة السينما والمسرح لم تعد تنتج الأفلام وبرنامجها المسرحي لا يستوعب مسرحية أو مسرحيتين في العام، والانتساب وظيفيا متوقف.
وجبات ووجبات من الطلبة يتخرجون سنويا من أكاديمية الفنون ومن معهد الفنون,
وجبات ووجبات من الطلبة يتخرجون سنويا من كلية الإعلام
من يستوعب هذه الأعداد في غياب النتاج المسرحي والسينمائي بين التقشف والتحريم. وتقلص الصحافة وتقلص التلفزة.
كثيرون يلجؤون لطلب الانتساب للمؤسسات الأمنية والعسكرية. فتتحول نتاجاتهم إلى تجارب مدونة روائيا وشعريا وقصصيا وكلها سوداء عن حروب دامية وكوابيس في اليقظة والمنام. لهذا نرى عناوين الكتب الصادرة منذ سنوات فيها الكثير من الغرائبية المتعلقة بالموت والدمار.
شاعر يبعث لي عبر هاتفي قصائد شعر مدمرة عن الوجود والألم كل يوم وكل ساعة. كنت أتمنى أن تصلني منه لمحة شعرية عن حبيب في الحلم أو عن وردة في بستان نامت بعد غياب الشمس.
أتابع أسماء لم أكن سمعت بها من قبل بحكم الفراق والبعد عن الوطن منذ عقود من الزمان، أقرأ أنباء رحيلهم عن العالم واستشهادهم في الدفاع عن الوطن واكتشف أنهم شعراء وروائيون وسينمائيون ومسرحيون. فأسأل عنهم يقولون لي تخرجوا تواً من أكاديمية الفنون والتحقوا بالعسكر.
الصحف لم تعد مدعومة من الدولة!
والقنوات الفضائية توقفت أمريكا عن مواصلة الدعم السنوي البالغ خمسة ملايين وثلثمائة وخمسين ألف دولار لكل قناة تؤدي الدور المرسوم لها. فاستغنت القنوات عن تقنييها ومراسليها ومقدمي برامجها، وصار صاحب القناة يقدم وحده برامج البث المباشر يتحدث وحده عن الاقتصاد والاجتماع وعلم الفلك .. والمنتسبون لم يجدوا مكانا يأويهم غير عالم العسكرة من الجيش والشرطة وأحيانا المليشيات.
يذكرني ذلك بسنوات الحرب العراقية الإيرانية التي دفعت بالآلاف قسرا نحو جبهات الحرب وطوعا وقسرا بالهجرة من الوطن والنوم في محطات القطارات وصولا لبلدان اللجوء. أتذكر يوم تحولت الصحافة إلى صحافة حرب والتلفزة إلى تلفزة حرب والتربية إلى تربية حرب، وعندما لم يرغب الكتاب كتابة القصائد عن الحرب ولا الصحفيون من كتابة الأعمدة الصحفية عن الحرب إجتمع معهم وزير ثقافة الدكتاتور وحدثهم وهو يعبث بمسدسه قائلا «الجندي العراقي ينزف في جبهة القتال دما وأنتم لا تنزفون حبرا على ورق!» .. وغادرهم قائلا .. سوف أتابع ما تكتبون وسوف نلتقي ثانية!
الثقافة العراقية بدأت تضمحل اليوم والنتاج الأدبي والفني يلون القلوب والمشاعر باللون الأسود!
ليس لأن نيران الحرب تحتاج إلى وقود، وليس لنقص في تعداد الجنود، ولكن لأن الثقافة نفسها تحترق بالحرب أو بدونها وهي أداة تعبيرية غير مرغوب فيها وتفسد الأخلاق، فالأجدى أن تتعسكر الثقافة في التعيين والتدوين!
هذه هي الطريقة المثلى للتخلص من العبء الملقى على عاتقهم!
من المؤسف حقا والمؤلم حقا أن يترك المثقفون العراقيون وهم يحملون اللافتات وقطع الكرتون في ساحة الأندلس أو شارع المتنبي معبرين عن احتجاجهم على إلغاء منحتهم السنوية وتقليص رواتبهم أو طرائق تسديدها لهم بعد حين تحت شعار التقشف دون أن يمس التقشف رواتب أعضاء البرلمان التي تصل إلى ثلاثين ألف دولار شهريا لو احتسبنا مخصصات الحماية ومخصصات السيارات ووقودها ومخصصات الحواسيب وعمولات صفقات السلاح وبناء المستشفيات، ودون أن يمس التقشف السفراء في رواتبهم التي تبلغ مع مخصصات الضيافة عشرين ألف دولاراً كل شهر، فيطالبون المثقف والإعلامي بالتقشف في راتبه البائس وكثيرون منهم بدون رواتب أصلا!
ظاهرة عسكرة الثقافة في التعيين وفي الكتابة وفي الرواتب والمخصصات هي ظاهرة تستهدف المثقفين وهي الطريقة المثلى للتخلص منهم، وهم أساساً منهكون!
- هولندا
k.h.sununu@gmail.com