تقوم رواية (وحشة النهار) لخالد اليوسف على حدثين رئيسين هما: الحالة النفسية التي وصل إليها (سهيل)، ولقاؤه بـ(غزيل)، وهما الحدثان اللذان بنيت عليهما فكرة الرواية التي سعت إلى تصوير اللقاء السلبي بين الخير والشر. بين النقاء والخديعة.
والرواية حافلة بالأحداث الثانوية الكثيرة المبنية على التداخل والتقابل والتي أسهمت في بناء الحدثين الرئيسين، وفي تصوير الشخصية في مراحلها المختلفة وفي وضوح الفكرة، لكن عُزلة (سهيل) -(الحالة النفسية)- ولقاءه (غزيل) هما الحدثان الرئيسان في الرواية، لأن كل ما بعدهما كان نتيجة لهما، فلو لم يعتزل (سهيل) عن أهله وعن كل ما يحيط به -المجتمع- لما حدث له ما حدث، لذلك بدأت به الرواية: [قلق ينتابني لحالتي اليومية عند كل صباح أستيقظ فيه ولا أجد قرب فراشي شيئاً يُسكت معدتي، يفجعني الجوع والعطش، ويطرد نومي إن بتّ خاليّاً].1 فنجد أنفسنا -نحن القراء- من البداية في قلب الحدث الرئيس الأول، وهكذا يضعنا الراوي الذي هو في نفس الوقت بطل الرواية (سهيل) مباشرة من أول صفحة بل من أول سطر في قلب الحدث الرئيس الأول الذي ستترتب عليه كل الأحداث اللاحقة بما فيها الحدث الرئيس الثاني، ويشعل هذا الحدث أول علامة استفهام في نفس القارئ : كيف وصل هذا الإنسان إلى هذه الحالة الجسدية والنفسية المتعبة؟! لتأتي الأحداث التالية حاملة بعض التمهيد لذلك، ومؤكدة ثبات البطل وتمسكه بمبادئه على الرغم من كل الإثارة التي تعرض لها، وعلى الرغم من تردده الواضح بين الإقدام والإحجام، الذي يكشف عن عنف التدافع والصراع داخل (سهيل).
هذا هو الحدث الرئيس الأول : عُزلة (سهيل) وحالته النفسية والجسدية العليلة الذي يمثل الحاضر الروائي، ولكن إلى جوار هذا الحدث كان هناك حدث رئيس آخر لا يقل أهمية عنه، ألا وهو الماضي الروائي/ ماضي الشخصية والذي كان يأتي عبر ذاكرة البطل مخترقاً للحدث الأول، وقاطعاً تسلسله ومقدماً من خلال أجزائه المتناثرة على امتداد الرواية ماضي البطل بطفولته ومعاناته، وراصداً بداية تحوله إلى العزلة، والتطورات التي حدثت بعد ذلك، والتي جعلت المثقف المبدع يجوب الصحاري، ويدمن العزلة، ويغرق في السحر.
لقد تشكل هذا الحدث بواسطة مجموعة من الأحداث التي كانت تأتي من خلال ذاكرة البطل على غير ترتيبها الزمني إذ اعتورها التقديم والتأخير، فجاء الحديث عن سكناه في منزل العائلة الخرب، ولقاؤه بـ(غزيل) مقدماً على الحديث عن ولادته، وطفولته ودراسته.
كما وردت تجربته في الحصول على الذائقة الأدبية عن طريق أحد المعلمين الأجناب، مقدمة عن تحوله لأديب يحفظ الشعر، ويتأثر بتجارب معاصريه الأدبية من خلال الصحف.
لذلك لم يكن القارئ ليطمئن تماماً، وهو يلمس هذا الصراع المحتدم داخل (سهيل) الذي يذكره في كل لحظة بعنوان الرواية (وحشة النهار)، ليجيء الحدث الرئيس الثاني بعد سلسلة من الأحداث الثانوية كتمهيد أولي عن وحشة النهار التي أشار إليها عنوان الرواية، وحاملاً مزيداً من التشويق الذي كان القارئ ينتظر من خلاله معرفة أسباب تلك الوحشة التي يعيشها البطل.
ويتضح من السياق العام للرواية -وحشة النهار- أن بناء الأحداث فيها يقوم على نسق التناوب القائم على سرد أحداث مختلفة في المكان والزمان من قصة واحدة. وتعرض من خلالها تجربة (سهيل) مفضية من خلالها بفكرة الرواية.
فـ(سهيل) شخصية في الأربعين، ينتمي إلى نجد، تمكن من الحصول على التعليم في طفولته حتى أنهى المرحلة الثانوية في كنف أسرته، بدأ ينمو في داخله الحس الأدبي والإبداعي من مراحل تعليمه المبكرة، وساعده بعض معلمي المدرسة في تنمية موهبته وبعض منهم كاد يقضي عليها، ويعيش مع أسرته في سكن حديث الذي أنشأته شركة كبرى لنقل النفط لموظفيها بمدينة (رفحا) الواقعة في أقصى الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية، اشتهرت بمسمى (شركة التبلاين)، لكون والده أحد موظفي الشركة، ولنفس السبب حصل على عمل فيها بعد الثانوية، ثم سافر عن طريقها -الشركة- لأمريكا لإكمال الدراسة ولكنه لم يكملها، وعاش بفضل هذه الظروف - التعليم، الشركة العالمية الكبرى، السكن الحديث- في مجتمع منفتح يتشارك فيه الحياة مع أغلب أطياف المجتمع الرافض بالتعايش الإنساني الراقي لجميع نعرات الفُرقة -المذهبية، العرقية، القبلية- المجتمعية.
ولكن في داخله عشق آسر للصحراء أوقعه في عشق محرم لغجرية -(غزيل)- تسبب له في أزمة نفسية، وأزمة جسدية -بالسحر- وجعلته يعود منهما للعزلة وحيدا في سكن العائلة المهجور، بالحيّ المهجور من أغلب سكانه المؤسس لهم من قبل الشركة الكبرى في مدينة (رفحا)، ويتجرع فيه مع نفسه ووجعه -كإنسان ميت على قيد الحياة- كل ما مر به من أحداث، وحين وصل لقرار جازم بالعودة من جديد للحياة، حصلت له أمور -لن أذكرها هنا لكيلا أفقد القارئ متعة قراءة الرواية- لتنتهي الرواية بنهاية غير متوقعة للقارئ.
هذه هي أحداث الرواية في أصل الحكاية، أي المتن الحكائي، لكنها لم تأتِ كذلك في المبنى الحكائي، أي أن القصة لم تُعْرض بترتيبها الذي حدثت به في أصل الحكاية، فتبدأ من أول نقطة في البداية، وتسير متتابعة إلى آخر نقطة في النهاية، وإنما بدأت من نقطة قصية قبل النهاية، بدأت من عزلة (سهيل) وحالته النفسية والجسدية المرضية، ولقاؤه بشقيقه الأصغر (مشاري)، وحواراته معه، وحتى القرار الذي عقد العزم على تنفيذه، وما رواه عنه (مشاري) بالفصل الأخير من الرواية -وتعمدت عدم ذكره في السابق- وصفتها كانت تمثل الحاضر الروائي، أي الأحداث المنظورة التي تعرضها الرواية، لكن إلى جوار هذه الأحداث، كانت هناك أحداث تمثل ماضي البطل، وهي تُستدعى دائماً عبر ذاكرته لتخترق هذه الأحداث المنظورة، وتنقلنا -القارئ- نقلة زمنية من الحاضر إلى الماضي بالتناوب مقدمة صورة مناقضة تماماً، صورة لا تمت إلى الحاضر بصلة، ولكنها جزء آخر من قصة (سهيل) لا تكتمل إلا به، فـ(سهيل) الذي يجلس في بيت مهجور خرب بعزلته وقلقه ومرضه، واعتماده على شقيقه الأصغر (مشاري) حتى في أتفه الأمور الحياتية، هو نفسه (سهيل) الذي كان مبدعاً وأديباً، ويعيش حياته بأدق تفاصيلها اليومية -طفلاً، يافعاً، شاباً- وهذا ما سعى هذا الأسلوب في البناء إلى تحقيقه، فالرواية كانت تسعى من خلال هذه المفارقة الصارخة إلى تصوير الهزة العنيفة التي أحدثتها بعض الأمور المترسبة المفروضة في نفوس بعض الناس وسلوكهم وقيمهم، وكان يمكن أن يتحقق ذلك من خلال سير القصة وفق تسلسلها الطبيعي، ولكنه لن يكون بنفس القوة والتأثير، ولن يحدث الصدمة نفسها التي أحدثها أسلوب التناوب الزماني الذي استخدمه الكاتب، فتجاور الماضي والحاضر وتقاطعهما بهذه الصورة التناوبية كان يكشف صورة الحاضر في ضوء الماضي بشكل حاد وجارح محدثاً الصدمة المطلوبة، ومجسّماً حجم الهزة التي ما كانت تستبين بوضوح إلا من خلال هذا الأسلوب.
وبالإضافة إلى التناوب الزماني الذي بنيت عليه الرواية بصورة أساس، استخدم الكاتب أيضاً التناوب المكاني، وقدّمه بفنية عالية مستغلاً تلك الزيارات التي كان يقوم بها الشقيق الأصغر (مشاري) للبطل، وفي وقفات البطل مع نفسه، لتنقلنا -نحن القراء- من أمريكا وبيئة العمل والصحراء حيث (سهيل) و (غزيل) ومجالس الأنس وأماكن العمل والدراسة والولادة ودهاليز الصحراء والبيئات الاجتماعية المختلفة، إلى رفحا وسكن العمال والعائلة المهجور حيث القلق والتعب والعزلة والإهمال والوحشة، بصورة تشبه أسلوب المونتاج المكاني في السينما حيث تتوالى عدة مشاهد مكانية في لحظة واحدة، ليحدث هذا التناوب المكاني المفارقة الكاشفة عن جانب آخر من اهتزاز القيم يوشك أن يعصف بأنبل الروابط، رابطة التكافل المجتمعي، ووحدة الأسرة.
ولم يكن أسلوب البناء في رواية (وحشة النهار) مجرد تجريب فني أراد أن يثبت الكاتب/ خالد اليوسف، من خلاله قدرته على استخدام أسلوب فني حديث، بل جاء موظفاً بعناية ليسهم في بناء الفكرة من خلال هذا التناوب الزماني والمكاني الذي يكشف عن اضطراب الحياة واختلال نظامها نتيجة ثوران بركان تترسب في قاعه حمم قد تنفجر دون سابق إنذار.
ومن السياق العام للرواية يظهر أن الحبكة التي استخدمها اليوسف، لتنظيم أحداث روايته والربط بينها وتوجه حركتها نحو هدفها هي (الحبكة المفككة) الحديثة المعتمدة على سلسلة من الأحداث والمواقف المنفصلة، ووحدة العمل محققاً في (وحشة النهار) من خلال الشخصية الرئيسة والبيئة والفكرة، وعوامل جذب القارئ والإثارة والتشويق في الرواية معتمدا على طريقة العرض، وأسلوب السرد، وواقعية الأحداث، وعفوية الشخصيات وبساطتها، والعناية بالبيئة، والاعتماد على الشخصية الرئيسة (سهيل) التي تجمع كل الخيوط في يدها، فتحققت للرواية الوحدة والجاذبية من خلال البيئة، والشخصية الرئيسة، فرواية (وحشة النهار) رواية بيئة بالدرجة الأولى، وكان تصوير البيئة الصحراوية هدفها الرئيس الغالب عليها، وقد تمّ ذلك من خلال بطل الرواية (سهيل) الذي قدمت الرواية تجربته المرتبطة ببيئته.
وقد كان (سهيل) محور الرواية، فهو الذي يستقطب الشخصيات، والأحداث، والبيئة كانت تصور من خلال حركته هو، ومدى تأثره بها، وكان أسلوب السيرة الذاتية الذي اصطنعته الرواية، ودعمته من خلال ضمير المتكلم المستخدم في السرد من ضمن الأمور التي حافظت على وحدة العمل، وحققت له عنصر الجذب والتشويق.
أما المكان فقد كان موزعاً في (وحشة النهار) بين مدينة (رفحا) والصحراء التي حضرت بكل طقوسها في الرواية، وأخذت مساحة أكبر في النص، وكان لها دور المشاركة في البطولة مساهمة مع أمكنة أُخرى في صنع الفضاء الروائي.
فالصحراء كانت المكان الرئيس الآخر في الرواية، يبدو ذلك من خلال افتراشها مساحة أكبر في النص، وارتباطها المباشر بالحدث الرئيس، وتأثيرها القوي في الشخصية الرئيسة، وتحمل الأمن والخوف، والجمال والقبح، والوداعة والقسوة، وموصوفة بعناية ودقة في الرواية، وزاخرة بالدلالات حتى في عنوان الرواية الذي حمل (وحشة النهار)، وجعل منها -العنوان- وحشة لا يعرفها غير أبناء الصحراء ومن انكوا بنار عشقها، فوحشة النهار هي ساعات الظهيرة في المناطق الصحراوية التي لا تقل عن أيّ وحشة معروفة بالحياة، وهذا المكان -الصحراء- المصنوع فضاء روائيا لـ(وحشة النهار)، بوصفها مكاناً خاصاً له جمالياته ودلالاته يعتبر سبقاً وأولوية للكاتب/ خالد اليوسف، حيث لم يسبقه إليه غير كاتب واحد هي الروائية / ظافرة المسلول2، في روايتها : (ومات خوفي)3.
*- وحشة النهار: رواية سعودية للكاتب / خالد بن أحمد اليوسف. صادرة عن الانتشار العربي ببيروت بطبعتها الأولى 2013م.
1- الرواية وحشة النهار.
2- ظافرة المسلول. كاتبة وروائية سعودية.
3- ومات خوفي: رواية سعودية للكاتبة / ظافرة المسلول. صادرة عن دار النخيل بالرياض 1991م.
أحمد إسماعيل زين - قاص سعودي