- ليدز- بريطانيا
ترك رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- أثرًا كبيرًا وردود فعلٍ حزينة على المستويين المحلي والعالمي. وجاءت فجيعة الفقد مضاعفة على أبنائه خارج الوطن المبتعثين والمبتعثات الذين تناقلت هواتفهم رسائل النعي والتعزية، واختلطت لديهم مشاعر الفقد والغربة ولسان حالهم يقول: فقدنا أباً عظيماً كان ينتظر عودتنا ليلمس أثر دعمه ويقطف ثمار غرسه وقد عدنا لخدمة الدين والوطن تحقيقاً لحلمه العظيم.
امتلأت القلوب حزنًا لفراقه، وتناقلت الصحف والمواقع صوره وإنجازاته، واختلفت أساليب رثائه بين شعر ونثر ورسم. ألم فراقك أيها الأب الحنون دفع كثيرًا من أبنائك لتجسيد حبك، كلّ على طريقته الخاصة ألمًا وحزنًا وبكاء. وجاءت جدارية الفنان أحمد زهير أصدق وأنبل رثاء يقدمه الأبناء لوالدهم الفقيد -رحمه الله-. حملت هذه الجدارية ملامح جمالية فنية وإنسانية صاغت خطابًا جماليًا مختلفًا، وخلقت في نفس مشاهديها من جميع الأعمار والثقافات مشاعر فياضة تكشف عن تجربة إنسانية عميقة ستحاول هذه الأسطر قراءة بعضًا من جوانبها.
جدارية الرحيل -كما أحب أن أسميها- مثّلت حالة حزن مختلفة حين جسدت لنا خطاب الموت بوعي جمالي نجح في الوصول لقلوب المتلقين في تمازج عميق بين الكلمة والصورة. حاول فيها الفنان أن يتجاوز مشهد الصورة الصامت على الجدار مجسّدًا مشهد الوداع الأخير بسؤال يختلط بنداء للراحل (وين رايح!؟)، ليكسر حاجز الصمت في لحظة انتظار تحولت تحت ضغطٍ نفسي إلى أسئلة حارقة وحوار موجه للروح الغائبة بشكلٍ غنائي حزين يستحضر كلمات التوجع والحسرة (ما روينا من حنانك، ومنك ما اكتفينا) تكشف معاناة الذات وهي تحاول التغلب على مشاعر الفقد والفجيعة في حضرة الغياب.
الجدار صامت، لكن الحديث معه يتماهى مع حقيقة الموت ليبني صورة مركبة تقوم على الاستفادة من النص في مشهد يزاوج بين الواقعي والخيالي، الشخصي والجماعي، الحسي والبصري. ولعل استحضار الفنّان لتلك الكلمات بكل معانيها الشعرية دليل حسّ إنساني عميق يؤول ما يعتري الذات من حرقة وتمزق وألم لفقد عزيز يحاول التشبث بآخر خطوة له تتجسد في عبارة (التفت سلّم علينا). بهذا التداخل بين النص والصورة يستدعي الفنان/ الإنسان مشهد الموت، وتتولد داخل الذات المبدعة فجيعة الموت المفاجئ لتترجم مشاعر الفقد في أقسى صورها حينما يمتزج لون الرحيل الأبيض بلون الحداد الأسود. هكذا جاءت الجدارية مرثية مختلفة موسومة بمرارة الحزن والأسى، تصرخ رغم صمتها بإشارات وعلامات تحتشد فيها صورة الموت بقوة. وتتبدى سيميائيته بشكل عميق في اقتباس نص امتزج مع الحدث، لينتج معنى عميق الدلالة يجعل قارئ اللوحة يستحضر مشهدًا تراجيديًا حزيناً، ترسم من خلاله الذات مرثية تسمو بخطابها الجمالي إلى آفاق فنية واسعة تتراكم إشاراتها الدلالية بشكلٍ يتكئ على نوعٍ من التداخل والتكامل بين الكلمة والصورة.
ونستطيع القول، أن جدارية الرحيل لا تحيلنا فقط إلى رثاء الفقيد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله -رحمه الله- بل تحيلنا أيضاً إلى رثاء الذات الفردية والجمعية (الفنان والشعب) حين استخدم ضمير الجمع (نا) ليجسد خطاب الموت في أقسى صوره عندما انتقل به من الخاص إلى العام. هذه الإستراتيجية الجمالية جسدت تجربة فنان رقيق حسّاس، دفعته مشاعر الفقد إلى مواجهة فجيعة الرحيل الأخير بأسلوب جمالي فريد. بقي أن نقول: رحل قائد عظيم -رحمه الله- وبقي في قلوب أبنائه وشعبه حيا وحاضراً، وخلفه قائد عظيم نسأل الله له العون على حمل الأمانة.