- بريدة
اطلعت على ما كتبه أخي الكريم طارق الغفيلي، يرد فيه على ما كتبته في مقالة لي عن ابن منظور قد نشرتها قبلاً في الثقافية.
يبدو لي وللقارئ ربما، أنّ الأخ الكريم طارق، لا يفرق بين أمرين:
1- الفرق بين الكتاب المؤلَّف، والكتاب المصنَّف.
2- الفرق بين المصدر والمرجع.
لذلك؛ ذكر أنّ لابن منظور مصنّفات، بقوله « ومن قرأ مصنّفات ابن منظور ... إلخ».
أكبر الظن عندي أنّ القارئ الفطن لا يوافق صاحبنا على إطلاق كلمة مصنّفات على أعمال ابن منظور؛ ذلك لأنّ الرجل تخصص في الاشتغال على اختصارات الكتب، فهو يأخذ الكتاب الطويل ويختصره، ومنها ما يأتي:
1. مختار الأغاني، وهو مختصر كتاب الأغاني للأصفهاني.
2. مختصر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي في عشرة مجلدات.
3. مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر.
4. مختصر مفردات ابن البيطار.
5. مختصر العقد الفريد لابن عبد ربه.
6. مختصر زهر الآداب للحصري.
7. مختصر الحيوان للجاحظ.
8. مختصر يتيمة الدهر للثعالبي.
9. مختصر نشوان المحاضرة للتنوخي.
10. مختصر الذخيرة.
إذن؛ فابن منظور - رحمه الله - كان من هواة الاختصارات، ولم يُعرف له منهج خاص به في التأليفات، سوى منهج الاختصار إن كان يسمّى منهجًا تجوُّزًا، وقد عُلم أنّ الاختصارات من أيسر الأعمال والاشتغال في الكتب كما لا يخفى.
على أنّ أبا هلال العسكري في كتابه «الفروق في اللغة»، قد فرَّق بين التأليف والتصنيف، حيث ذكر أنّ التأليف أعم من التصنيف، وهذا الأخير يكون في صنف من أصناف العلم المتعددة، أي يكون موضوعًا جديدًا لم يسبق إليه، وابن منظور لم يؤلف، ولم يصنّف، وإنما مختصر فحسب.
إذا كان ذلك كذلك؛ فهل صفة المشيخة تنطبق عليه؟
الجواب في أكبر المظان عندي هو: لا. إذ إنه عالة على من اختصر كتبهم، ولم يأتِ بجديد يعتد به، وليست له آراء أو مقولات أو نظريات، أو سابقات علمية، وإنما هو متطفل على نتاج الآخرين إن جاز التعبير.
وبما أنّ الأخ طارق قد قرأ اللسان كاملاً على حد زعمه، فقد نقل ابن منظور فيه قوله: « الصِّنْفُ والصَّنْفُ النَّوْعُ والضَّرْبُ من الشيء، والتَّصْنِيفُ تمييز الأَشياء بعضها من بعض، وصَنَّف الشيءَ مَيَّز بعضَه من بعض».
آتي هنا إلى الفرق بين المصدر والمرجع، فالمصدر أصل المادة المبحوثة، والمرجع ما ساعد في تبيان تلك المادة الأصلية فحسب.
فابن منظور ينقل كلامًا لابن دريد من معجم المحكم لابن سيدة، وكان عليه أن ينقل من معجم ابن دريد ويحيل إليه، لا أن ينقل من الناقل ليغفل قول القائل الأول وهو ابن دريد، وهذه هي أصول البحث العلمي التي يجب أن يضطلع بها الأخ طارق، فهو بصدد إعداد رسالة أكاديمية، وكم هو مؤسف أن يجهل أقل مقومات البحث أكاديمي معدود في زمرة الباحثين!
لقد فعل هذا ابن منظور، وهي سرقة في مفهوم البحث العلمي، إذ قد يُهمل الباحث الأصلي، ويضيع جهده.
على أنني لا ألوم ابن منظور، ففعله هذا يحتم عليه أن يقع في مثل هذا الخطأ، حيث إنه مختصر فحسب، وهذه سلبية لا بد منها. إذ إن ابن منظور غير مستعد لأن يقف على الإحالات كلها، فاشتغاله في الاختصارات ينبئ عن ميله إلى الدعة والراحة، والشيء السهل، ولم يجشم نفسه بأن يأتي بجديد كما فعل الأسلاف، فكيف به أن يقف على هذا؟!
يبدو لي أنني في هذا المهاد قد رددت على الشبهة الأولى من هاتيك الشبه الأربع التي ذكرها الأخ الكريم طارق، وهي نقل ابن منظور من فرع دون الأصل.
هنا آتي على الشبهة الثانية، وهي عدم الإحالة إلى ابن منظور، فأقول: إنه ناقل فحسب، والأولى على الباحث أن ينقل عن الأصل، حيث يجب أن يُهمل ابن منظور إهمالاً ينقطع نظيره، وبلا هوادة، فالحق أن يحيل الباحث إلى أي معجم من تلك المعاجم الخمسة التي نقلها ابن منظور، ولا أن يذكر ابن منظور البتة. ولو لم يفعل ذلك؛ لكان قد نقل عن الفرع دون الأصل. وليس بحجة أن مؤلف المعجم اللاحق ينقل عن السابق، فهي حجة تخالفها أصول البحث العلمي.
أما الشبهة الثالثة، فهي الحذف أو الإضافة. وقد قلت فيها إن ابن منظور رغم إضافته أو حذفه فإن هذين قليلان إذا قورنا بمادة الكتاب الأصلية، ثم إن وجودهما دليل على خلط عجيب عند ابن منظور في المقدمة، أو لنقل عدم وعيه التام بأساسيات البحث العلمي، حيث ينفي الزيادة والنقص في المقدمة، ثم نجده يحذف ويزيد من عندياته داخل عمله!! والأخ طارق هنا قد أكّد خلط ابن منظور من حيث يريد الدفاع عنه!!
أما الشبهة الرابعة. وهي ادعاء ابن منظور لجمعه تلك المعاجم بالكتاب. فما أدري هل ابن منظور مصنف أم محقق، أم مؤلف؟! حيث يقول الأخ طارق: « وهذه أمانة علمية يسير عليها جميع المحققين». فما أظن أن القارئ الحصيف يُسلّم للأخ قوله هنا؟! حيث إن ابن منظور ناقل فحسب، والناقل للمادة العلمية، مع بعض «الرتوش» من حيث الزيادة والنقص، يسمّى جامعاً فحسب، ولا يسمّى مؤلفاً ولا مصنفاً ولا محققاً.
إنني لا أزال أنادي بأن يحيل الباحث إلى أي معجم من معاجم اللغة دون الإحالة إلى ابن منظور، فإن فعل ذلك وأحال إلى ابن منظور؛ فإنه باحث يتتبع السبل السهلة والمختصرة، ويأنف من البحث عن المادة في أصلها. وإن هو أخذ بكلامي هذا؛ فعليه أن يتتبع المفردة التي أرادها في المعاجم، فيقول: وقد ذكرها المعجم الفلاني عن المعجم الفلاني... إلى أن يصل إلى أول معجم ذكرها. أو أن ينقل عن المعجم الأول، إلا إن وجد ما أضافه المعجم اللاحق على السابق، فيورد تلك الإضافة. هكذا هو البحث العلمي الحديث الحقيقي الذي ينم عن جهد، ودراية في طرقه التي يضطلع بها العارفون.
لقد قلت ما قلت، وفي أكبر الظن أن ابن منظور ليس بشيخ علم، حيث إنه لا ترتقي به أعماله «الاختصارية» إلى ذلك، وهي التي تنم عن جهد المقل الذي يتتبع الأشياء الجاهزة، فيحورها، ويقدم ويؤخر فيها، ثم يقول: «هاؤم اقرؤوا كتابي!!»
نسأل الله للجميع التوفيق.
- Ahmad-27-@hotmail.com