- جدة
(1)
صادقَتْ حكومة العدوّ (الإسرائيليّ) - مؤخّراً - على مشروع القوميّة اليهوديّة كهويّة الدولة الإسرائيليّة بديلاً عن المواطنة والمنظومة شبه الديمقراطيّة، وإذا قُدّم المشروع لمناقشته في الكنيست (البرلماني التشريعي الإسرائيلي) وحصل على موافقة أكثرية النوّاب حال التصويت عليه، حينذاك - وتحديداً - ينتفي عن إسرائيل الزعم الديمقراطي الذي يتجرُ به أنصارها في الغرب، وترفع (القشّة) التي تفاضلها سياسيّاً عن جيرانها؛ فالدولة التي في تركيبة تحالفاتها الطبيعيّة مع الغرب تستند إلى مفهوم الانتماء في النظام السياسي الديمقراطي واحتوائه على مكوّنات الدولة، فإنّها تُغامرُ في وجودها بعلاقات سياسيّة مع الغرب - وتحديداً الدول الأوروبيّة - وتقع علانيّة في العنصريّة، لطالما حاول أنصارها إبعاد هذه التهمة عنها، وحاول أعداؤها إثباتها.
(2)
لا يختلف مأزق القومية العربية عن مأزق القومية العبرية من حيث بعدهما عن الوصول إلى دولة العموم واقترابهما دائماً من هاوية التورّط بالفئويّة والعنصريّة، فكلاهما لا يقدران على الوجود المادي دون الموجد والحاضن الفعلي لهما، والمقصد: الديانة؛ فبينما أدرك الساسة اليهوديون صعوبة الفصل بين القوميّة العبريّة والديانة اليهوديّة، فهما في الوريد ذاته كما كريات الدم الحمراء والبيضاء؛ فإننا نلاحظ الخطأ التاريخي والمعاصر للقوميين العرب الذين لم يلحظوا أنهم عاجزون عن بناء دولة مدنية علمانية لأسباب تتعلّق بطبيعة القوميّة العربيّة السياميّة مع الديانة الإسلاميّة، بحيث لا تكون القومية العربية في مكان آخر إلا مع الإسلام، وبحالٍ، لا يمكن لهذا البتر القومي أن يقوم بدور الموجد والحاضن له؛ وكذا حال الدعوة الإسلامويّة لا تكون بدون مضمونها القومي العربي على مجازية افتراض العرق... بينما نحن نميل إلى افتراض اللغة والوجود المادي والاصطلاح التشريعي لضبط تعريف من هو العربي، كما حال الضبط الأوروبي في تعريف من هو الأوروبي، اعتماداً على الجنسيّة وليس على أيّ شيء آخر. ولذلك فإنّ الدول العربية يصعب أن تكون دولاً معاصرة ذات أنظمة علمانيّة ومدنيّة إذا لم تتجاوز روابط الدم والعرق والدين لتعتمد على رابطة الوجود المادي والمواطنة والضبط الدستوري لتعريف المواطن بمجرد حصوله على شروط المواطنة، والتي تبقى ناقصة أو (قنبلة مؤقتة) ومطعوناً بها إذا كانت مشروطة بحالةٍ أو حدثٍ غير اختياري لدى الإنسان كالعرق، وديانة الأبوين؛ وهذا أصل في مفهوم الاختيار أزعمه من أصول دولة العموم.. فإن أوصلت القوميات الأوروبيّة دولها إلى مضمون دولة العموم بعد دولة الخصوص (الفئويّة)، فذلك لأنّ القوميّات الأوروبية لا يرتبط وجودها بحاضن دينيّ، إنّما نشأت القوميّة تحت حركات وتيارات واقعيّة تريد أن تستقلّ عن دولة الكنيسة باتّجاه دولة مدنيّة قائمة على القوميّة قبل نضوج دولة العموم؛ بينما عجزت ولسوف تعجز كلا القوميّتين العربيّة والعبرية عن الوصول إلى دولة العموم، وهما ماضيان باتّجاه التطرّف والمزيد من المضامين الفئويّة لأنّهما غير قادرتين عن الإفلات من الحاضن الديني، ذلك أنّ القوميتين العربية والعبريّة - ليستا أكثر من مجازٍ تاريخيّ متراكمٍ - ظاهرتان بسبب الديانة وليس لطبيعة مستقلّة في القومية المزعومة، كما هو حال مفهوم مجموعة القوميّات الأوروبية التي أصّلت لمفهوم الدولة القوميّة واقعياً، وأفرز المشروع جحيماً دمويّاً غير مسبوق في التاريخ، ممّا مهّد للانتقال من دولة الغلبة إلى دولة العموم: (من غلبة الفئة الطرف إلى غلبة العموم والأطراف جميعةً)، ونحن نزعم أنّ أوروبا ما كانت لتقع في الجحيم الدمويّ الذي كلّفها ملايين الضحايا في حربين لم تشهد مثلهما الإنسانيّة منذ تاريخها المعروف إذا لم تتورّط بالمضمون القوميّ الذي أهلكَ أوروبا في الوقت عينه الذي اشتدّت فيه الأطماع على السيطرة والتوسّعات نظراً لانفجار صناعيٍّ متسارعٍ كان محلّه يتوسّع في كلّ أوروبا فكانت القوميّات طريقاً لإشعال الصراعات على الملكيّة والتوسّع، وقضى على إمكان إحيائه مرّة أخرى بالصورة التي يقدّمها التطرّف، هكذا سقطت الفئويّة عن أوروبا الغربيّة وأصبحت موجودة وذات أثرٍ في دول أوروبا الشرقيّة، ولم تعد السيادة إلاّ في يد أبناء الضحايا - العموم الذين ورثوا جحيم القوميّة والفئويّة ونهاية دولة الخصوص، وتفعيل دولة العموم بالمعنى الذي أفرزته الواقعية الأوروبيّة في اتّحادها الذي هو اتحاد عموميّات وليس اتحاد دول، وهو الأمر الذي يصعب فهمه دون الوقوف عند مفهوم الدولة الواقعي الذي برز أكثر في أوروبا بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية.
(3)
ما موقف التاريخ الإسلامي الأوّل من دولة العموم - دولة الإنسان؟
بالعودة إلى التاريخ المكتوب على تعدّده وتناقضاته، فإنّ التأمّل فيما ورد عن الكيان - الدولة التي أسّسها النبي العربي (عليه السلام) بوصفه زعيم جماعة من الناس بمعزل عن (النبوّة والرسالة)، ودول الخلفاء من بعده على اختلاف أشكالها وبعض مضامينها، فإنّ القراءة الماديّة تُظهر: أنّها جاءت ضدّ مفهوم الحاكم المطلق - المقدّس، (باستثناء ما ينُسب إلى الخليفة عثمان أنّه جرح هذا المفهوم، في واقعة القميص، ولكنّ المتأمّل في مرويات أحداث الفتنة الكبرى يلحظ رفض العربي في واقعه الجديد الارتهان إلى هذا المفهوم الذي يتقمّص الدين أو الدولة)؛ كما يلاحظ على ذلك الكيان خلوّه من مفهوم ومضمون تداول للسلطة العليا إلاّ ما كان وفاة أو غلبة؛ وما يهمّ هذا الموضوع أنّ الدولة قامت أو الكيان تشكّل دون ضبط لمضمون وشكل نهائي فيما يخصّ انتقال السلطة ومتطلّبات العامة وهو ما فتح الباب على الأمومين ليعملوا بالتوارث والغلبة. لقد أسّس النبي عليه السلام بوصفه زعيماً سياسيّاً سلطة بيد العموم، وإن لم تكن بمفهوم دولة العموم الذي نقدّم له على أنّه إنتاج أو طبيعة تعاقبية لمجتمعات وكيانات صناعيّة يزداد فيه المرء والعموم في المشاركة في ملكيّة الدولة عبر العمل والتملّك والحقوق والحريات تجاوزاً للعرقيّة والمذهبيّة، بينما المفهوم العموميّ الذي نرصده في واقع الرعيل الأوّل، هو سلطة العموم في خلع الحكامين وحقوق المعتقد الذي حافظ عليها الكيان الأوّل لأتباعه المؤمنين واليهود والنصارى والصابئة.. إضافة إلى مفاهيم طُبّقت في أرض الواقع: (عدم التوريث، مفهوم البيعة ورضا الناس - أصحاب العقد - العموم، وإن كان المنشقّ يبقى خارج مفهوم الجماعة)؛ وعلى الرغم من ذلك لا نستطيع أن نستسلم للوهم (والعاطفة) ونقول إنّ مضمونها كان مضمون دولة العموم القائمة في الغرب اليوم، ولا نستطيع أن نتقوّل على التاريخ ما ليس فيه لأجل إرضاء النفس والحاضر، ومع ذلك فإنّنا نقيس التاريخ مقارنة بالتاريخ المتزامن معه وليس المتقدّم عليه، ونراه حيث ينتمي هو لا حيث ننتمي نحن، وحينما نحن نستحضر ها هنا، فلسنا لأنّنا دُعاة الماضي ليصادق على الحاضر، بل لأنّنا على الاضطرار نواجه خطابا دينيّاً - سياسيّاً ومؤسّساتيّاً واجتماعيّاً يستند في تصوّره إلى الدولة الدينيّة -الفئويّة الخصوصيّة إلى مراجع تاريخيّة يزعم فيها أنّها تقدّس الفئويّة الدينيّة وتعادي العموميّة وحقوق أفرادها، وهالوقائع التاريخيّة التي نستحضر منها ما يبطل دعوته الفئويّة، بوصف التاريخ الإسلامي نشأ أساساً لإبطال مفهوم تقديس الحكم والانتهاء من ديننة الدولة - الكيان.
(4)
لماذا بين العربي والانتماء لدولته مشكلة؟ وماذا يعني انتماؤه للقومية العربيّة أو للعالم الإسلامي؟ أين تكمن مشكلة الانتماء؟ ما الذي يبرّر هذا التيه في الهُويّة؟ أسئلة في الانتماء تفرض طرحها عند البحث عن دولة العموم والقانون والمؤسسات، وتكون أكثر وضوحاً عند ربطها بعلاقة الإنسان بالدولة، حينما يكون النظام في الدولة جزءاً منها وليس هو الدولة كلّها، وحينما يكون دستور الدولة وتنفيذه قائماً على مبدأ الاحتواء والامتلاء، وعلى أنّ أفراده هم أصلٌ فيه، وأيّ تفريط في حقوقهم وحرياتهم إنّما هو تفريط في حالة الانتماء الوطني.
أصلٌ في الانتماء يكون على النفع المتبادل، ويكون إلى ما هو موجود، والحقوق بما فيها الحريّات أصلٌ في الانتماء، وإذا ما تمّ التفريط بهذا الأصل فإنّ الانتماء نفسه غير مضمون البقاء، وبقاؤه هُزال يستند إلى ضعفٍ الإنسان العاطفي و - أو عدم وجود البديل الذي يمكنه أن يفرّط بانتماءٍ مقابل انتماءٍ.
فإلى أيّ مدى أسهمت الأنظمة العربيّة نفسها في وضع انتماء المواطن إلى دولته على المحك والامتحان، حينما سلبته حقوقه وحرياته وهما الأصل الماديّ النفعيّ في الانتماء؟! وهو الأصل الذي تخشاه الأنظمة مخافة المطالبة بحقوقه بوصفه صاحب الشرعيّة المصادقة على شرعيّة أيّ سلطة داخل أيّ نظام.
كيف تنتمي إلى ما هو فعلاً غير موجود: (العالم العربي أو العالم الإسلامي؟) أين هذان العالمان بعيداً عن المجاز الافتراضي - الجمعي، وهل يكفي انعقاد مؤتمر هنا وهناك، أو وجود جامعة أو مركز، حتى يخرج هذان الشبحان العملاقان من قمم الكلام والافتراض إلى الحقيقة - الواقع، بوصف الحقيقة النسبيّة في هذا المقام هي الوجود المادي الكلّي الظاهر في الواقع للكيانين المزعومين؟ كيف يمكن أن تنتمي إلى ما هو مفتّتٌ ومجزّأ وغير موجود على معنى الانتماء؟ كيف يمكن أن أنتمي إلى ما هو خارج الحدود قبل أن أنتمي إلى ما هو داخل الحدود؟ ما معنى الانتماء؟ وكيف يتأثّر منسوب الانتماء بين الزيادة والنقصان؟ أسئلةٌ لا يمكن أن تتجاوز في تفكيكها ضرورة الانتماء الوطني أولاً، بوصفه الانتماء الواقعي المادي والذي له شروط وحقوقه وواجباته، دون خَصْخَصَةِ الدولة والوطن وإبعادهما عن عموم المواطنين؛ ولهذا مقال آخر.