بالصدفة وأنا افتش بالأوراق القديمة مؤخراً وجدت صورة لأخي وزميلي محمد العجيان عند ما تم التعارف بيننا بالسنة الأولى الثانوية بمعهد الرياض العلمي، وقد كانت الصورة باللباس (الافرنجي) الحديث بالمعطف وربطة العنق – وكان وقتها قد شاع هذا اللون من التصوير من باب التقليد – وقد كتب خلف الصورة (للزميل الكريم محمد القشعمي أهدي صورتي هذه تقديراً للصداقة وللذكرى)، محمد العجيان بتاريخ 25-5-1379هـ. وكان وزميله صالح الصويان قد التحقا حديثاً بالمعهد بعد أن اجتازا امتحان السنة السادسة الابتدائية بنجاح من المدرسة الخالدية بحلة القصمان – شرق شمال وسط الرياض – أما أنا فقد سبقتهما بعامين، إذ التحقت بالمعهد من السنة الأولى تمهيدي منتقلاً من المدرسة المحمدية الواقعة بين حيي دخنة والشرقية، غرب وسط الرياض بعد أن نجحت من السنة الرابعة الابتدائية، وذلك من أجل الحصول على مكافأة الطالب التمهيدي وقدرها 70 ريالاً، أما طالب الثانوي فتزيد إلى 210 ريال.
وكان لابد من الدراسة بالمعهد لمدة سنتين في الأولى والثانية تمهيدي حتى يمكنني الالتحاق بالمرحلة الثانوية والدراسة فيها لمدة خمس سنوات، يتمكن من اجتازها الالتحاق بإحدى كليتي الشريعة أو اللغة العربية أو كليهما، استمرت علاقتي بأخي محمد العجيان، ومنه عرفت الصحافة الحائطية أولاً ثم الورقية وبالتحديد جريدتي اليمامة والقصيم، وكان التنافس بين طلاب الفصول والسنوات على أشده في أن تظهر صحيفتهم الحائطية أفضل من غيرها.
في شهر رمضان عام 1379هـ سافرت مع الوالد إلى مكة المكرمة كما هي عادته للصيام نهاراً في الحرم وليلاً يصلي التراويح والتهجد في منزل والدة الملك فهد بن عبدالعزيز في حي (الزاهر)، ولمعرفتي بمدى حب العجيان للصحافة فقد بلغت بي الجرأة والسذاجه أن أشتري ثلاث جرائد أذكر منها: الندوة والبلاد، وأذهب إلى مأمور البريد لأرسلها إلى المعهد بالرياض معتقداً بأن ما يصدر في مكة لا يصل إلى الرياض، وقد أخذ مني البريد أكثر من قيمتها بثلاثة أضعاف – وكان وقتها لا يتجاوز قيمة الجريدة 4 قروش علمت فيما بعد أن ما أرسلته لم يصل إلا بعد ما يقارب الشهر. وكانت تلك الجرائد التي تصدر من المنطقة الغربية تصل الرياض بعد يوم أو يومين من صدورها. وفي العام التالي شاركته في الحفل الأسبوعي الثقافي الذي يقيمه المعهد ليالي الجمع بفقرة (مساجلة شعرية) عند ما وجدت هذه الصورة طمعت بوجود غيرها خصوصاً وقد رافقته بأول سفر لي إلى العراق بمناسبة عطلة عيد رمضان عام 1384هـ بعد أن تركنا المعهد دون إكمال المرحلة الثانوية والتحق كل منا بالوظيفة الحكومية، وكنت أزوره في منزله بحلة القصمان أثناء الدراسة، وكانت والدته .......... رحمها الله ترحب بي وتدعوني إلى الصعود إلى ابنها الوحيد محمد بـ(الروشن) – وهو مجلس الرجال الذي يؤدي إليه سلم يقع على يمين الباب الخارجي – وأجده يقرأ إما في كتاب أو صحيفة وسريعاً ما نسمع حركة والدته وهي تصعد الدرج – رغم فقد بصرها – لتضع الشاهي في أعلى عتبة منه وهي ترحب وتهلي بي، وتكاد أن تصل إلينا لولا اعتراض ابنها وطلبه منها النزول، وكأني سمعتها يوماً وهي تقول أن صديق ابنها بمثابة صديقها.
عثرت فعلاً على صورتين تجمعني بالصديق العجيان عند سفرنا المذكور للعراق وبالذات في بغداد يوم العيد واحدة تجمعنا جالسين في وسط ميدان الوثبة بشارع الرشيد، والثانية بمقهى أو على الأصح ملهى ليالي الصفا الواقع بجوار جسر بين الكرخ والرصافة. وأذكر عن تلك الرحلة أنني زرته بديوان الموظفين – حيث يعمل – وكان مقر الديوان وقتها في شارع عمر بن الخطاب المؤدي من سكة الحديد حيث وزارة العمل والشؤون الاجتماعية – حيث أعمل – إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني على شارع المطار.
عند زيارته منتصف شهر رمضان 1384هـ اقترح أن نسافر خلال عطلة العيد إلى العراق وكان مولعاً بالشاعر بدر شاكر السياب ومتأثراً بوفاته قبل أيام – 24 ديسمبر 1964م في المستشفى الأميري بالكويت – والذي سبق أن أوصاني في العام الماضي عند سفري إلى قطر أن أحضر له ديوانه (شناشيل بنت الجلبي) حيث صدر حديثاً.
سافرنا قبل العيد بأربعة أو خمسة أيام قضينا يوماً بالكويت حيث سكنا في فندق شعبي يقع في وسط السوق التجاري بجوار سوق واقف. واصلنا السفر بسيارات التاكسي إلى البصرة وسكنا في فندق لا يختلف كثيراً عن سابقه. قضينا يومين تجولنا في الأسواق والمكتبات وأخذنا أحدهم في نزهة خارج البصرة حيث يقيم الغجر (الكوالة) في مخيمات متواضعة عندما يزورهم السياح يقيمون حفلاً راقصاً مقابل مبلغ بسيط.
واصلنا في اليوم التالي الرحلة إلى بغداد بالحافلة وقضينا أكثر من ثمان ساعات في الطريق وكانت كثيرة التوقف ومزعجة، وكنا نخاف من اللصوص وقد حذرنا البعض منهم، وكنا نحمل إبرة وسلك فبمجرد وصولنا للسكن بالفندق أخذنا نقلب مرتبة الفرش المتهالكة والمهترئة ونفتح فتحة فيها وندس بها ما تيسر مما نحمله من نقود ثم نخيطه ولا نعود له إلا وقت الحاجة، ومع ذلك لم نكتف بذلك بل كنا نفتح فتحة في قبة القميص وندس بها مبلغاً آخر كاحتياطي ونضعه خلف الرقبة. وآخر ندسه في الحذاء.
وصلنا بغداد بسلامة الله منتصف الليل ووجدنا فندقاً لا يقل تواضعاً عن سابقيه وسكنا بغرفة مشتركة ببضعة فلوس – الدينار يتكون من 100 فلس – وفي الصباح ذهبنا إلى شارع الرشيد والذي لا يبعد كثيراً عن السكن، فتناولنا الفطور الذي أشبعنا حتى المساء وكان يتكون من القشدة (القيمر) ورأس وكرشة الخروف والمسمى لديهم (باجة) ولهذا يقول العراقي للآخر المثل المشهور (اللي ما يكال باجة ما يتحاجة). بعد ذلك ذهبنا لمكتبة (المتنبي) الشهيرة بشارع الرشيد وكان ذلك قبل العيد بيوم أو يومين، فمررنا بعدد من المكتبات ومن أهمها كما أذكر مكتبة (البيان) لصاحبها الذي لا أنساه علي الخاقاني والذي تحدث عن تاريخ المكتبة وتاريخه وعن إصداره لمجلة شهرية باسم مكتبته (البيان)، وقد أطلعنا على مجلدات منها، أذكر أنني قد اشتريت منه مجلدين كان ينشر بها حلقات عن متابعة تجار الرقيق وكيف يخطفونهم ويحرصون على صغار السن ومن الإناث بشكل خاص ويبيعونهن لأشخاص كسماسرة لهم أماكن محددة يتولون تغذيتهم وتجميلهم ثم يبيعونهم لآخرين يتولون تهريبهم إلى الجزيرة العربية ليباعوا هناك في إمارات الخليج والمملكة. وقد احتفظت بها بعض الوقت وعند البحث عنها لم أجدها، خصوصاً وقد ذكر أسماء بعض من كان يتاجر بالرقيق في الرياض والأحساء والكويت وغيرها، وحكى لنا الخاقاني عن زيارة سفير المملكة المتوكلية اليمنية له ومعه إبراهيم بن يحيى حميد الدين، ولم يكن صاحب المكتبة علي الخاقاني يعرفهم إلا أنهم من اليمن عندما سألوه عن كتاب (اليمن بين القات وفساد الحكم) والصادر حديثاً عن سلسلة (إقرأ) بالقاهرة.. وكذا كتاب (اليمن المنهوب والمنكوب) لا أعرف صاحبه.. وعندما عرف أنهم من اليمن بدأ يتحدث معهم بقسوة قائلاً: إنكم متعلمون كما يظهر لي فكيف ترضون بأن تطمروا تحت الثرى ويتحكم بكم واحد يعيش بعقل العصور الوسطى، فقال له السفير الذي لم يكن يعرفه، اسمح لي أن أعرفك بنفسي ومرافقي أنا محسن العيني السفير اليمني ببغداد وهذا الأمير إبراهيم بن يحيى حميد الدين فاعتذر منهم بلباقة إلا أنه واصل حديثه عن التخلف في اليمن، وبعد ذهابهم انتابه خوف أن يبلغوا عنه الرئيس عبدالكريم قاسم بحكم أنهم كدبلوماسيين لهم حصانة ولا يقبلون إهانة بلدهم.. يقول وبعد يومين أو ثلاثة سمع بقيام ثورة اليمن وإذا بالسفير العيني يعين وزيراً للخارجية.
جاء العيد وقضينا وقتاً جميلاً، وذهبنا إلى (مدينة سامرا) حيث المنارة الشهيرة (الملوية) والتي يلتف عليها درجها من الخارج، والتقينا بالصدفة الصديق محمد العبدالمحسن الربيعة مع أحد زملائه، ورافقته في اليوم التالي لزيارة النجف وكربلاء مروراً بجسر المسيب والذي يذكره ناظم الغزالي بأغنيته الشهيرة. حيك.. بابا حيك.. وألف رحمة لبيِّك .. هاذ ولا العذبوني.. هاذو لا المرمروني.. على جسر المسيب سيبوني .. إلخ.
وأذكر أننا صبيحة يوم العيد وكان يوماً شديد البرودة لبسنا جميع مالدينا من ملابس وخرجنا لنمشي على شاطئ النهر بين الرصافة والكرخ فخطر على بالنا أن نذهب للقصر الجمهوري لمعايدة المشير عبدالسلام عارف والذي تولى رئاسة الجمهورية بعد الانقلاب على عبدالكريم قاسم فركبنا في الحافلة وهي وسيلة المواصلات الشعبية والتي تتكون من طابقين فاخترنا الطابق الأعلى لنرى المدينة بشكل أفضل ووصلنا القصر الجمهوري ونزلنا نسأل عن المدخل وكنا نتخلل أشجار النخيل في حديقة القصر ونرى الدبابات الحربية قابعة بينها فخفنا، وبمجرد وصولنا لمدخل القصر وجدنا مجموعة من الجنود يتقدمهم ضابط عرف أننا غرباء، وعرف رغبتنا، فقال يمكنكم تسجيل أسمائكم في سجل التشريفات ويطلع عليها الرئيس فيما بعد:
فعدنا خائبين..
بعد عودتنا من زيارة العتبات المقدسة – النجف وكربلاء – وفي صباح اليوم التالي ركبنا من بغداد إلى البصرة عائدين بحافلة صغيرة – وكلما أشر لها أحد الركاب الراجلين يرد عليهم مساعد السائق قائلاً: يابا مقبطين، عرفت فيما بعد أنه يقصد أن السيارة مليئة. ومن البصرة إلى الكويت فالرياض مع نهاية الإجازة.
- الرياض