من المعروف قطعاً أن العقل الأصولي مبني على المعتقد الديني أو السياسي، وهو يفكر بطريقة الثنائيات القاتلة للتنوع والثراء الفكري الإنساني حيث تنتفي الحيادية والنظرة الموضوعية للمنطقة الرمادية الوسطى، فأصحاب الفكر الأصولي يفكرون بطريقة الأبيض والأسود، السلام والحرب، الحب والبغض، البقاء والفناء، الإيمان والكفر لذلك هم لا يرون تلك المنطقة الرمادية الواقعة في المنتصف، بل إنهم لا يرون المنتصف بأكمله.
والأصولية أساساً Fundamentalism هي مصطلح فكري سياسي يشير إلى الفهم الكامل للحياة من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فهماً مبنياً على الاعتقاد أو التصورات الدينية أو الإيمان بفكرة معينة أو جماعة ما أو منظومة ما، والجدير بالذكر أن هذا المصطلح ظهر في الولايات المتحدة الأميركية خلال الأعوام من 1910م إلى 1915م حيث استخدمه الأصوليون المسيحيون ليعرفوا بذلك ثوابت عقيدتهم.
والأصولية في اللغة تعني قاع الشيء وما يبنى عليه غيره، وهي اصطلاحاً من الأصول المتعلقة بعلوم الدين، ولأن الأصوليين لا يؤمنون بالتنوع وينأون بعقولهم عن التفكير في منطقة الشك واللايقين فإنهم دائماً ما يرون الشيء بضده، ويملكون في الغالب إجابات نهائية لكل شيء، وتلك الإجابات وإن كان إدراكهم الباطن غير مؤمن بها إلا أنهم يحتاجون إليها لتظليل منطقة الوسط حتى لا يبقى هناك شيء يخدش توجهاتهم القائلة بأن مذهبهم صواب لا يحتمل الخطأ ومذهب غيرهم خطأ لا يحتمل الصواب.
إن حصر الفكر في ثنائيات الضد بالضد لا ينشئ إلا فكراً متعصباً لا يمكنه التوسع في مداركه أو الاستنارة بفكر غيره، فهو دائماً فكر مرتبك، ويخشى من التعددية الثقافية، لذلك حين توسعت رقعة الدولة الإسلامية إثر الفتوحات التي طالت مناطقاً تحمل إرثاً ثقافياً مغايراً بشكل كامل للإرث الثقافي العربي الإسلامي برزت الحاجة لإظهار مرونة في سن التشريعات التي لم يتبين فيها نص قرآني، أو حديث نبوي، ومن هنا بدأت الاجتهادات والاعتماد على التواتر والنقل حتى وصلنا إلى زمننا الحاضر الذي كثر فيه النقل وتقديمه على العقل وانتشرت التفسيرات النهائية القاطعة والمبنية على الاجتهاد الشخصي في الفهم للنصوص وظهر شرح لعدة شروح حتى أُعميت تماماً المنطقة الوسطى، فأصبحت التعارض الاجتماعي والتضاد الثقافي والتحزب السياسي بأشكال ثنائية سمة تصبغ التاريخ العربي الإسلامي!
يقول الكاتب يوسف أبا الخيل في مقاله (انعدام التعدد سبب في التحولات الفكرية الحادة): «الثقافة المغلقة وفقاً لمكوناتها وأهدافها وفقر أو انعدام زادها الفلسفي عادة ما تعطي معتنقيها إجابات نهائية سواء أكانت لمسائل فيزيقية أو ميتافيزيقية ما ورائية لا تحتمل التساؤل أو المناقشة، فهي بطبيعتها الأحادية القطعية لا تعطي احتمالاً لرؤى أخرى مخالفة قد تحمل معها جزءاً من حقيقة متعالية بل إنها تعطي إجاباتها للمستشكل وكأنها حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه».
إن تشكيل الفكر بذلك الشكل الأحادي الصارخ ومنحه الإجابة النهائية لكل الأمور الظنية يعتبر جريمة فكرية بحق العقل، وقتلاً للحيادية، فالعقل البشري لم يخلق ليتشرب الإجابات المسبقة، وإلا لما كان من داعٍ لمقدرته على التفكير بكافة أشكاله والتي منها البحث والاستنتاج والتحليل وتفكيك الرموز، وأول خانة محفزة للفكر هي الشك!
إن النقد للأصولية ليس نقداً للمذاهب الدينية، فالأصولية الفكرية بطريقة الثنائية المتضادة قد طالت أيضاً العلمانية، ففي حين كانت العلمانية تشكل موقفاً متفتحاً تجاه بعض الأمور والمسائل الواقعية والتاريخية، أدلج بعض العلمانيون تلك العلمانية وحولوها لتوجه إلحادي ناقم على الدين والحياة!
فالإنسان بكافة احتياجاته ومسائله ليس واقعاً محدداً بشكل نهائي ومؤكد، بل في الأمر تجديد!
عادل بن مبارك الدوسري - الرياض
البريد الالكتروني: aaa-am26@hotmail.com
تويتر: @AaaAm26