«كان يبكي وليس يدري لماذا
ويغني.. ولا يحسُّ التذاذا؟!
وينادي يا ذاك.. يصغي لهذا
وهو ذاك الذي ينادي وهذا»*
ولو علمونا منذ الطفولة أن نسأل، وأن نقول ماذا لنعرف لماذا، لما حلّ بنا كلّ هذا!
فلولا استدراكنا لذواتنا في فترة مبكرةٍ، وإنقاذها من براثن التلقين والتعليب، لظللنا أسرى للكذب والتزوير عبر ما كان يعرف بالعالم العربي، وهو في الحق عوالم لا تجاذب بينها، غرّبها وأذابها الاستعمار من الترك إلى الغرب، ولما طردته من أبوابها، سرعان ما عاد إليها من النافذة، والوعود الكاذبة.
ثم أتى على البقية الذابلة مدّعو الإصلاح، ومدّعو الليبرالية، ومتوهّمو الربيع من أصحاب الخريف والموت..
حتى بتنا نستذكر أوطاننا التي غابت عن الخريطة شعراً، يقول عبد الرزاق عبد الواحد:
مُذ كُوِّرتْ شعشعتْ فيها مسلّتُهُ
ودار دولابُه، والأحرُفُ الرسلُ
حملنَ للكونِ مسرى أبجديّتِهِ
وعنهُ كل الذين استكبروا نقلوا
والآن لا دولابٌ يدور، ولا أحرفٌ رسلٌ، فلا دورانَ إلا للموت، ولا أحرفَ إلا لبثِّ الفتن والأفكار المنحرفة المسمومة!
وهكذا.. وقعت معظم الأوطان بفعل الثورات البهيمة، والدواعش والقواعد، والأحزاب التي تتكاثر وتتقاسم كالخلايا السرطانية، ومعظم من ينظّرون لهذه الأحزاب والمعارضات المريضة في جلّها يجدون ملاذات لهم تحت أجنحة مخابرات هذه الدولة أو تلك، بينما أهل الأوطان يقتلون ويهجّرون، فإن نجوا من نيران أوطانهم وذويهم، لم ينجوا من تجار الحروب والأفكار والأحزاب الذين لا يذوقون حرقة المنافي بل يقيمون في فنادقها الضخمة وأحيائها الفخمة أمراء معارضةٍ وحربٍ وفساد، يتدون الحلل الباذخة، ويتقلبون مع ألوانها كما يتقلبون في الكذب مع مصالحهم:
(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147 النساء).
ولما ضعفت الأمة وذوت ضعف الاهتمام بلغتها وفكرها وأدبها وفنونها، وضعف تعليمها وإعلامها، ولم يعد أبناء العربية يجيدون كتابة أسمائهم، فالمها مهى، ونجوى نجوا، وأضحى الضيم ظيماً، والظلم ضلما،
والذال في الذاكرة، والذاكرة حصاد الإنسان من المعارف والتجارب، أي الحياة مصورة ملونة ممنتجة كما الأفلام في عقلِ كائنٍ واحد، فسبحان من أنشأه وذكّره:
( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (22 الغاشية)
يقولُ المتنبي سيدُ الشعرِ، صاحبُ
ما أبعدَ العيبِ والنقصانِ عن شرفي
أنا الثّريّا وذانِ الشيبُ والهرمُ
أعيذهـا نظــراتٍ منك صادقةً
أنْ تحسبَ الشحمَ فيمن شحمُهُ ورمُ
واليوم نحن نعوذ ونلوذ بالذي عينُه لا تنام، من كثرة الأورام والأوهام!
والذال في البذل،
* البردوني
- الرياض
mjharbi@hotmail.com