(1)
الدعوات التي بدأت في القرن التاسع عشر تحت مسمّى: تجديد التراث، وتجديد الدين، والإصلاح الديني، هي دعاوى أقرب إلى الخرافة من أيّ شيء آخر قابل للحياة، وهي الخطأ التاريخي-الحديث في رؤيتنا للعصرنة، الرؤية التي لم تزل محمولة في تصوّراتنا وقراراتنا وأسلوب حياتنا الغارقة في التناقض بين واقعية التبعيّة للغرب ورفض التبعيّة تحت أوهام قدرتنا على إحياء الماضي وإعادة دورنا في الحضارة عبر إحياء ما هو ميّت، وليس عبر أيّ شيء مرتبط بجهد نقوم به اليوم تحت شروط اليوم؛ والحكم على هذه الدعوات بالخرافة نتيجة لأنّها لا يمكن أن تتحقّق أبداً، كأنّك تطالب بإحياء الموتى وإعادة تمثيلهم للحياة التي عاشوها وبالطريقة التي تريدها أنتَ الآن، تريدهم أن يعشوا حياتك أنتَ ووفقاً لرؤيتك أنتَ فقط؛ أيّ عقل ينتظر هكذا فكرة عبثيّة إن صلحت في مسرح تجريبي بنيويّ، فإنّها لا تصلح نهائيّاً للتداول السياسي الإصلاحي والثقافي أيضاً. ومَنْ هذا الذي يُطارد مشروعاً رُسمت له الخطط عشرات المرّات منذ أكثر من مئة سنة، وكان مصيره الفشل عند التنفيذ في أكثر من دولة عربية!!!
(2)
يُنسب إلى النبي العربي قولاً: «إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مئة سنة من يجدّد لها أمر دينها) وعلى الرغم من تصحيح العلماء لسند الحديث والتعامل معه على أنّه حقيقة كاملة، فهم يتجاوزون أنّ مضمونه الغيبي يُعارض المتن القرآني، وخصوصاً مفهومي (البعثة والتجديد)، وارتباط هذا السياق بالنبوءة والرسالة؛ فكيف يتمّ البعثة؟ كيف يتمّ التجديد؟
يهمنا في هذا المقام: تسليط الضوء على أطماع السلطة التي يريد أن ينتزعها لنفسه رجل الدين تحت ادّعاءات دينيّة تضعه في صفّ الأنبياء والمبعوثين/ لطالما أمر تجديد الدين (الذي هو مسؤول عن الدولة في تصوّراتهم ومزاعمهم) أمره إلى رجل أو جماعة (مبعوثة) من قبل الله؛ فانظر إلى هذه القداسة التي يحيطون بها أنفسهم؛ وقد أصبح من عاديات الكلام أن يتمّ تسليط الضوء على هذه الأطماع، لكننا هنا نناقش السياق الديني الذي يستقيم مع أطماع رجال السياسّة وتورّط دعاة تجديد التراث -وهم يمثّلون تصوّراً مدنيّاً- يفضي إلى تحكيم الماضي على الحاضر، ثم لا يمكن التسليم بفرض نتائج ذلك التحكيم بالقوّة والأحاديّة، فذلك أصل في التطرف والعنف.
وقف دعاة الإصلاح الديني على العلّة التي تحكم وتؤثّر على هذا الشرق، وزعموا أنّ الواقع هو نتيجة مسارها، وبدلاً من رؤية السياسة وقدرتها في إدارة الواقع، فإنّهم انشغلوا في دعوة الإصلاح الديني طمعاً منهم بمشاركة السلطات العثمانيّة في إدارة أجزاء من الدولة، ثمّ بعد انهيار الدولة ظهر الطمع بأنّ يكونوا هم ورثة الدولة العثمانيّة عبر بدعة (وراثة الخلافة)، والتي ردّ عليها علي عبد الرازق. والملاحظ على هذه الدعوات أنها تتحدث باسم إصلاح الواقع المتردّي بأدوات من خارجه، وبالتالي فإن الدعوة بدلاً من الالتفاف إلى محلّ المشكلة، راحت تتلّهى بدعوة إصلاح الدين وتجديده، وكل من يعتقد بهذه الدعوة فإنه ضمناً يفوّض ممثّلي الدين في إدارة الدولة والواقع، وهنا يقع الخلط الفعلي بين السياسة ورجال الدين؛ والخدعة في الدعوة هو تحريف المشكلة من مشكلة واقعيّة سياسيّة تحلّ عن طريق السياسة، إلى اعتبار المشكلة هي مشكلة دينيّة والمسؤول عن حلّها هم الطبقة الدينيّة. والغريب في الأمر أنّ دعوة تجديد الدين ظهرت على يد علماء دين كأمثال (الأفغاني وعبده ورشيد رضا والبنا وسيد قطب، وحالياً الغنوشي وسليم العوا والقرضاوي والترابي وغيرهم) ففي المقابل ظهرت دعوة تجديد التراث من فريق آخر كأمثال الجابري وأركون ونصر حامد غيرهم، وكلا الدعوتين تعتمدا المرجعيّة نفسها وترتكب الخطأ والوهم نفسه؛ وذلك أنّك تفوّض الماضي الميّت بصلاحيّة إنقاذ الواقع الحي، وهذا هو الوهم والخطأ الأوّل، وثانياً أوهام تنفيذ (تجديد التراث، تجديد الدين)، وهذا وهم لا يمكن تحقيقه أبداً، لا يمكن لأحد أن يلغي كلّ التراث ويعيد كتابته (على كيفه)، وإن فعل فحكمه حكم المستبدّ الذي يريد أن يدّعي أن تصوّره للتراث والدين والماضي هو التصور السليم وباقي التصورات باطلة، وهذا عين التطرّف، كما أنّه لا يمكن لأحد أن (يجدّد الدين) والدين مكتملٌ في المتن القرآني وأمره كله لله، وأيّمَن يدّعي تجديده فهو يضمر تقادمه ويضمر أنّه مؤيّد بالروح القدس لكونه فرداً أو جماعة (مبعوثين) من الله لخدمة الدين وتجديده من المزورين والمبطلين وإلى آخر هذه الحجج التي يمكن لأي أحد أن يستخدمها ضدّ من يشاء، وهنا مرّة أخرى نحن أمام تصوّر في التجديد يريد أن يلغي الاختلاف والتعدّد ويفرض تصوّره بالقوّة. كلا الفريقين في دعوتهم لإصلاح التراث أو الدين إنّما هما يتّفقان على المرجع والسبب في الأثر: ولكن،يف يمكن إصلاح السبب وقد تحقّق وانتهى!!
في سياق عام نقول: إذا كانت المجتمعات العر بية مأزومة بفهم ديني أو تراثي خاطئ عند هؤلاء الدعاة (الأصوليين وشبه العلمانيّين) فما هو المرجع الموحّد المتّفق عليه حتى يثبت أن هذه المجتمعات زاغت عنه؟ ومنذ متى كانت المجتمعات العربية والإسلاميّة واحدة حتى يمارس في حقّها نقد وتصوّر واحد للحل؟ وهل تتشابه المجتمعات العربيّة المختلفة إلاّ في كونها جميعة تدار بالجمع بين السياسة والدين؟ هذا هو المتشابه الوحيد الذي يمكن السيطرة عليه عبر السياسة فقط.
وصحيح أنّ المجتمعات العربيّة اليوم متأثّرة ومأسورة بالماضي، لكن المسألة على وضوحها بقيت محدودة لدى بعض المنشغلين في السياسة الواقعية العربية في سياق محض علماني وبراجماتي يدعو للقطيعة مع الماضي في سياق السياسة وإدارة الواقع بأدوات الحاضر والمصالح، وبقي هذا الصوت العلماني الواضح خافتاً لأسباب ازدياد الخطأ شبه العلماني الذي يدّعي نقد الخطاب الديني، لكنّه في خطابه يدعو مرّة أخرى للاحتكام إلى الفهم الديني حكماً وسلطاناً على السياسة، وهذا أصل العلّة في خطابهم أنّهم لا يرفضون الخطاب الديني السياسي في وجوده في الحقل السياسي، إنّما يرفضون أسلوبه ويدّعون أنّ هناك طريقة لتجديده لكي يخدم الواقع، وهكذا عدنا مرّة أخرى إلى استمرار وجود الخطاب الديني السياسي داخل أروقة صناعة القرار السياسي.
(3)
في سياق تعدّدي وتوسّعي لمدوّنة الفكر التعليميّة الدينيّة والفلسفيّة فإنّ هذه الدعوات قد تخدم هذه المدوّنة دون إقحامها أنّها الحلّ، لأنّها ليست مراحليّة، ولا يمكن الاعتماد عليها تمهيداً للعلمنة السياسيّة، فهي تخدم المدوّنة في وجود تصوّرات جديدة إضافيّة لتفسير التراث: (دون وجود حقّ مصون بالقوّة يفرض تصوّراً دون آخر، وخصوصاً أنها تصوّرات ما-ورائيّة وغير خاضعة للعلم الطبيعي التجريبي)، ثم لا يمكن أن تفرض في حقل سياسي وإلاّ وقعت فيما تزعم انتقاده ونقده، والمسألة أنّنا اليوم لسنا بحاجة إلى دعاوى تجديد، بحيث إنّ مدوّنة قراءة التراث وتفكيكه ماديّاً لم تكن يوماً على عطائها كما حالها اليوم، فانظر مثلاً من بداية القرن العشرين: (أصول الحكم في الإسلام لعلي عبدالرازق، النزعات الماديّة في التاريخ العربي الإسلامي لحسين مروّة، الثابت والمتحوّل لأدونيس، الكتاب والقرآن لمحمد شحرور، دين السلطان ودين الرحمان لنيازي عزّ الدين، وغيرها الكثير الكثير,, مشرقاً ومغرباً) لكنّها جميعة تبقى قراءات إضافيّة ولا يمكن الانتصار لها سياسيّاً وإلاّ وقعنا في العقدة الاستبداديّة عينها،ّ وكل ما يمكن فعله هو إتاحة الحريّة لتداولها جنب إلى جنب مع الفقه القديم شرط ابعاد سدنة الفقهين القديم والجديد عن ممارسة أدوار تشريعيّة سياسيّة تخصّ صناعة أيّ قرار سياسي في الدولة.
المشكلة ليست فكريّة كما يسوّق لها دُعاة الإصلاح الديني، فالعرب اليوم يقدّمون عطاءً فكريّاً وقراءات متعدّدة ومنفتحة وأكثر علميّة ومدنيّة من بدايات النهضة العربيّة المبتورة إلاّ أنّنا في ردّة لم تكن موجودة يوماً ما؛ فأين العلّة، وكيف تكون العلّة في الفكر ونحن نقدّم هذه النظريات والقراءات المعاصرة لتجديد التراث وتجديد الدين والإصلاح الديني، وعلى الرغم من ذلك فإنّنا قد ذهبنا في ردّة تاريخيّة معاصرة لم تمرّ على العرب منذ نبش مقابر الأمويين على يد العباسيين؛ والحكاية أنّ هذا الفكر ليس مسؤولاً عمّا وصلنا إليه، كما أنّه لن يكون الحلّ، لأنّ الحل ليس فكريّاً وليس دينيّاً، إنّما محضّ سياسي، وأيّما فكر ليس له من أقدام على الأرض فإنّه يبقى في أرفف المكتبات وأرشيف الذاكرة ويعجز على المشي خطوة واحدة في أرض الإصلاح، ويبقى الإصلاح بانتظار القرارات السياسيّة القادرة على صناعة القطيعة السياسيّة بين صناعة الواقع وبين الارتباط بمؤثّرات دينيّة وتراثيّة، دون هذا الابتداء فإنّ جميع المشاريع الفكريّة والثقافيّة تبقى معطّلة وعاجزة عن التمدّد اجتماعيّا وعاجزة عن التحوّل من أفكار في الكتب إلى ثقافات تخصّ الناس وأخلاقهم وسلوكهم في تعدّدية لا يمكن أن تكون تطوّعيّة ما لم تلزم وتفرض بقوانين تردع من يخترقها.
- جدة