نواصل مع ترجمتنا لدراسة البروفيسور تامر مصطفى المنشورة في فبراير 2000 والتي ستشكل أحد فصول كتابي المترجم «الأزهر والسياسة» الذي لا يزال تحت الترجمة:
مفارقة عجيبة:
زيادة سيطرة الحكومة على المؤسسات الدينية أسهمت في بزوغ الجماعات الإسلاموية المتطرفة
ومما لا شك فيه أن زيادة سيطرة الحكومة على المؤسسات الدينية، ربما، كانت أهم عامل أسهم في عودة بزوغ الجماعات الإسلاموية المتطرفة، بما في ذلك «الجهاد» و«التكفير والهجرة» (35) و«الجماعة الإسلامية»؛ وهي الجماعات التي كانت تسعى إلى الإطاحة بالحكومة المصرية، باستخدام العنف. وتشير الدراسات التي حلّلت مظالم الجماعات الإسلاموية المسلحة في مصر ومطالبها إلى أن أحد أهم الأسباب المركزية لظهور العنف الديني يكمن في تزايد تبعية وخضوع الدين للدولة (36). ويجادل بيانكي أن «نجاح السياسات النقابوية(*) (corporatist)، بحد ذاتها، ساعد على تطرف أولئك الذين يرفضون ممارسة القيادات الدينية الذين تعينهم الدولة عندما يتلاعبون بالدين ويؤولون النصوص الشرعية لخدمة احتياجات النظام العلمانية» (37). ودلت دراسة إليس غولدبرغ المقارنة بين الإسلاموية العنيفة والحركة البروتستانتية على أن صعود الأصولية كرد فعل على سيطرة وتنظيم الدولة الصارم لشؤون الدين لا يقتصر على مصر ويمكن أن نتوقع أن نرى الظاهرة نفسها في سياقات مماثلة بأماكن أخرى (39).
وإذا كان كشك والإسلامويين المعتدلين طالبوا الحكومة بإعادة الأزهر إلى وضع ما قبل عام 1961 كمؤسسة مستقلة نسبياً، فإن الجماعات الإسلاموية المتطرفة رفضت دور الأزهر التقليدي وعلمائه بكل صراحة. ولعل التعبير الأكثر إدهاشاً وتطرفاً لمعارضة الإسلاموية المتطرفة لكل من الحكومة والأزهر نفسه يتمثل في اختطاف وقتل الشيخ د. محمد الذهبي، وهو وزير سابق للأوقاف، من قبل «جماعة التكفير والهجرة» في يونيو 1977 (40). لقد صعق ذلك الاغتيال علماء الأزهر، لأن الذهبي لم يكن مسؤولاً حكومياً فحسب؛ ولكنه أيضا عالم دين متمرس ومرموق. أكثر من ذلك، استغل شكري مصطفى، زعيم «جماعة التكفير والهجرة»، فرصة محاكمته؛ ليعلن أن «الإسلام بدأ يتراجع، منذ أن توقف الرجال عن الاجتهاد بشكل مباشر من القرآن والسنة. وبدلاً من ذلك، صاروا يقلّدون رجال دين آخرين يسمّون أنفسهم أئمة» (41). وجادل شكري مصطفى، مثل غيره من الإسلامويين المتطرفين، بأن العلماء ضلّلوا المسلمين بتفسيراتهم الخاصة للإسلام. ووفقا لمصطفى، فإن النصوص الوحيدة المطلوبة لفهم الإسلام هي القرآن ومعجم لفهم معنى الكلمات. لقد كان اغتيال الشيخ الذهبي وهذا التأكيد من شكري يمثلان بوضوح هجمتين أساسيتين على الدور التقليدي الذي تمتّع به الأزهر وعلمائه في المجتمع المصري لأكثر من ألف عام تقريباً (42).
وبعد اغتيال أنور السادات بأربع سنوات، عُثر على كتاب لدى حركة الجهاد بعنوان «الفريضة الغائبة». وكشف هذا الكتاب، لأول مرة، عن الأفكار الخطيرة داخل الجماعات الإسلاموية المتطرفة في مصر. ومثل فهم شكري مصطفى السالف ذكره، رفض مؤلف كتاب «الفريضة الغائبة» شرعية كل من الحكومة والأزهر بعبارات لا لبس فيها (43). ووفقا لـ محمد فرج، مؤلف «الفريضة الغائبة» وزعيم جماعة الجهاد، كان يجب الإطاحة بحكام مصر المرتدين؛ لأنهم لا يحكمون مصر وفقا للشريعة الإسلامية. وبالإضافة إلى ذلك، جادل فرج - مثل شكري مصطفى - بأن علماء الأزهر ضللوا المسلمين، وشكك في احتكار الأزهر للدين باعتباره المفسر الوحيد للإسلام (44).
ولكن هذا الهجوم العنيف على دور الأزهر في المجتمع المصري لم يمر دون رد؛ فقد كتب جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر (بل مفتي مصر وقتها)، تفنيدا طويلا لأفكار «الفريضة الغائبة» (45). لقد جادل جاد الحق بأن الأزهر يقوم بدور هام في المجتمع المصري، وأن هجوم «الفريضة الغائبة» على الأزهر يمثل «دعوة إلى الأمية والبدائية باسم الإسلام، وسوف يشجع الشباب على ترك دراستهم» (46). واستشهد جاد الحق، أيضاً، بآيات من القرآن تدعم الحجة القائلة بأن السعي إلى طلب العلم هو، في حد ذاته، شكل من أشكال الجهاد (47). وفي محاولة لتبرير موقف العلماء في المجتمع المصري، أشار جاد الحق إلى قول النبي: (عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (48). وبعدما اقتبس عدة أمثلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، واختتم جاد الحق تفنيده: بأنه «لو حاولنا سرد آيات القرآن الكريم التي تحث على المعرفة والسعي إلى التعلم، وتفضيل العلماء على الآخرين، فنحتاج لكتاب بل كتب لحصرها» (49). وبالإضافة إلى الدفاع عن دور الأزهر في المجتمع المصري، وجد جاد الحق نفسه في موقف محرج عندما برّر سياسات الحكومة دينيا، وأكد جاد الحق أن الإسلام لا يزال يزدهر في مصر، وأن هذا الازدهار يعود معظمه إلى أن الحكومة قد أوفت بواجبها لحماية الإسلام وتعزيزه (50).
وبعد اغتيال السادات مباشرة، حاولت الحكومة المصرية أيضا تشويه سمعة الإسلامويين المتطرفين بطريقتها الخاصة؛ فقد اعتقل مبارك فوراً 4.000 شخص يشتبه بانتمائهم إلى الجماعات الإسلاموية المتطرفة في مصر، وناشد شيوخا بارزين من الأزهر لمحاورتهم داخل السجن؛ ولكن الحوار فشل عندما سخر وتهكم المعتقلون الإسلامويون على علماء الأزهر أثناء تلك الحوارات، ثم طلبوا أن يُطلق سراحهم بحجة أنه تم إصلاح أفكارهم وإعادة تأهيلهم على يد علماء الأزهر. وفي نهاية المطاف، أدركت الحكومة أن ممثلي الأزهر قد فقدوا الكثير من شرعيتهم واحترامهم، وأخرجت مشايخ الأزهر من ذلك الحوار واستبدلتهم بأعضاء من «جماعة الإخوان المسلمين المعتدلة» (52)؛ لأنها كانت تتمتع بنزاهة وصدقية أكثر من علماء الأزهر في نظر المتطرفين الإسلامويين وكثير من المصريين بشكل عام.
كان الدرس المستفاد الأهم للحكومة من هذه الحادثة هو أن زيادة السيطرة على الأزهر، أي المؤسسة الدينية الرسمية، ليس بالضرورة في مصلحة الدولة على المدى الطويل. ومع أن الحكومة تمكنت من استصدار فتاوى من الأزهر لدعم سياساتها، إلا أن تلاعب الحكومة بالمؤسسة الدينية أسهم أيضا في صعود الإسلاموية المتطرفة. وبالإضافة إلى ذلك، أدت سيطرة الحكومة على الدين إلى تقويض احترام الأزهر وتشويه سمعة علمائه بين المصريين. وعندما احتاجت الحكومة للأزهر للتأثير على المجتمع وشجب الإسلامويين المتطرفين وتنفير الناس منهم لم يكن الأزهر قادراً على القيام بتلك المهمة، بسبب تآكل صدقيته. وكانت المفارقة الدهشة أن زيادة سيطرة الحكومة على المؤسسة الدينية في مصر لم تساعد الدولة على اكتساب الشرعية المطلوبة لتعزيز حكمها؛ بل بدلاً من ذلك، تسبب ذلك في تقويض شرعية كل من الحكومة والأزهر معاً.
من الصراع إلى التعاون:
الإسلاموية المتطرفة و«تحالف الأزهر - الحكومة»
ومع بزوغ الإسلاموية المتطرفة واجهت الحكومة والأزهر معاً تهديداً مشتركاً لشرعيتهما؛ وهو ما دفعهما إلى تعاون مضطرب وغير مريح. لقد اكتشفت الحكومة أن تحقيق هدفها المتمثل في محاربة الإسلامويين المتطرفين واستعادة الاستقرار الداخلي يعتمد على «زيادة استقلال» الأزهر، ليتمكن من توفير ردود دينية تحظى بصدقية على خصوم الدولة من الإسلامويين المتطرفين. وتيقن مبارك أنه يمكن أن يعتمد على الأزهر لتفنيد مزاعم الإسلامويين المتطرفين حتى من دون رقابة حكومية شديدة على الأزهر، لأن هذه الجماعات تحدت سلطة الأزهر ونزاهته تماماً مثلما هددت الحكومة. وأصدر شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق إدانة عنيفة للإسلامويين المتطرفين وأعمال العنف الأخيرة في مصر، حيث قال:
«أولئك الذين يرتكبون العنف ليسوا إسلاميين ولا يمثلون الإسلام. إنهم مجرمون تجب معاقبتهم. وتجب معاقبة كل شخص يتحدى النظام العام وسلطة الدولة. مثل هذا الفرد ليس إسلامياً على الإطلاق. أولئك الذين يفسدون في الأرض هم أعداء الله ورسوله». (53)
** ** **
هوامش المترجم:
(*) دولة نقابوية (corporatist): دولة لا تحكم من قبل ممثلي المناطق الجغرافية؛ بل من ممثلي النقابات المهنية وأرباب العمل والعمال في كل تجارة أو مهنة أو صناعة. (العيسى، نقلاً عن معجم أوكسفورد).
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب