القيمة الدلالية التي يملكها المصطلح -بما هو مصطلح- هي قيمة ذات جوانب لسانية، وجوانب خارج لسانية؛ فالمصطلح وإن كان لفظاً لسانياً؛ فإن له علاقة بالأشياء من حولنا، وله علاقة بتطور الفكر، وله علاقة بمستوى الحضارة، وله علاقة بعملية الإنتاج والاستهلاك كعملية في ذاتها...، ولكننا نريد هنا أن ننظر في حجم قيمة المكِّون الدلالي للمصطلح بموازنتها بقيم دلالية أخرى؛ لندرك الوضع القيمي الدلالي للمصطلح في إطار اللغة عموماً، وفي إطار إمكانية قبوله للتغيير أو عدم قبوله.
ويمكن في هذا الصدد عقد موازنة تنطلق من قيمة المصطلح التعريفية أو التخصيصية، مع المكِّون الدلالي لكلمات لغوية تحمل تينك القيمتين؛ فإذا ما انطلقنا من اللغة الواصفة النحوية نجد أن اللغات عموماً تفرق بين المكِّون الدلالي للكلمات بمقتضى أن الكلمة تحوي دلالة محددة، أو أنها تحوي دلالة غير محددة، أي أن الكلمات إما أن يكون مكِّونها الدلالي معروفاً أو غير معروف؛ فإن كان معروفاً فهو معرفة، وإن لم يكن معروفاً فهو نكرة، وتأتي بينهما مرتبة متوسطة للمعروف جزئياً، أو للمخصّص...
وبناء على هذا التقسيم فإن المصطلح الذي هو عبارة عن نقل اللفظ أو التركيب اللفظي من معناه الأصلي إلى معنى آخر لغرض غير الغرض البلاغي التخييلييعدُّ من الكلمات التي تحمل مكِّوناً دلالياً محدَّداً بتحدُّد الغرض الذي نُقِلت لأجله الكلمة من معناها الأصلي، وبمجال ذلك الغرض؛ وعليه فإننا يمكن أن نوازنه بكل كلمة تدل على شيء محدّد معروف (بغض النظر عن التعريف والتنكير في النظريات النحوية التركيبية).
وعند موازنة (المصطلح العلمي) بـ(اسم الجنس)، و(العَلَم)، و(الاسم الداخل عليه بعض اللواصق التعيينية)، أو (ببعض الكلمات الواصلة أو النائبة) نرى الاسم الذي يدل على الجنس يؤطر معنى محدّداً ( في نحو اللغة العربية : اسم الجنس، اسم الجنس الجمعي، اسم الجمع) فـ(رجل) اسم جنس لفئة الذكور من البشر، و(شجر) اسم جنس جمعي لمجموعة من النباتات، و(سرب) اسم جمع لهيئة مخصوصة من الطيور فقط.
والاسم العَلَم يدل على معنى محدَّد؛ فعندما نقول: (يزن) نحدّده علماً لمذكر، في حين أن (عائشة) علم لمؤنث.
والكلمة قد تتعين ليس بما تملكه من قوة تحديدية في دلالتها، ولكن بوساطة دخول بعض اللواصق عليها؛ (كأداة التعريف) التي تدلُّ على معنى محدد في وضع صرفي (في الكلمة المفردة)، أو في وضع صرف نحوي (في أثناء التركيب)، كما أن بعض الكلمات الواصلة (كأسماء الموصول وأسماء الإشارة)، أو النائبة (كالضمائر) تدل أيضاً على تحديد، ولكن هذه الأنواع الثلاثة الأخيرة يرتبط التحديد فيها بشروط صياغية وتركيبية خاصة تجعل التحديد فيها لأغراض تركيبية نحوية أكثر من كونها لحمولات دلالية متعلقة بمعنى معروف محدد من خلال التلفظ بالكلمة خلواً عن التركيب...
وكذلك المصطلح العلمي؛ إذ إنه يحوي دلالة محددة مستقلة في نسق علمي محدّد يشبه في مكِّونه الدلالي ذي الحدود اسم الجنس واسم الجنس الجمعي واسم الجمع والعَلَم، وهذه الأسماء المحدَّدة تذكرنا بنظرية الاصطلاح والمواضعة التي ذكرها ابن جنى في وضع اللغة التي يظهر أنها في حدوثها التلقائي بدأت بتحديد اسم الجنس واسم الجنس الجمعي واسم الجمع، ثم انتقلت إلى بقية الألفاظ الأخرى؛ ذلك لأن اسم الجنس و ما تفرع منه من اسم الجنس الجمعي واسم الجمع - وإن كانت النظرية التركيبية النحوية العربية تعدها من النكرات - إلا أن مكِّوناتها الدلالية من أقوى المكِّونات المعرَّفة الشديدة التحديد في تعريفها، بحيث إننا لا نستطيع أن نطلق كلمة ( ماء) بدلاً من(جبل) فهي معروفة لجميع المخاطبين باللغة، ومن هنا صارت ثابتة لا يمكن تغيير ما تعينه، أو تغيير تحدّده، أو حتى تغيير بعض سماتها الدلالية التي تُعرف بها.
في حين أن (العَلَم) – على سبيل المثال - يمكن أن يُغيَّر؛ لأنه بمثابة وصف لبعض السمات العارضة التي يحملها اسم الجنس لتحديد أفراده، ثم إن (العَلَم) لا يستعمل في الغالب إلا في وضع نطقي تركيبي، أقصد أن أسماء الأجناس تظل قارة في المتصَّور الذهني للناطق باللغة حتى إن لم ينطقها بخلاف الاسم العلم فهنالك (محمد) و(أوس)، و(يزن)، أعلام لرجال أو أطفال ذكور من العرب، وليست هذه الأعلام محدّدة للذكور فحسب، بل يمكن أن نسمِّي رجلاً ب(عائشة )و(داليا)، وإن كانت هاتان الكلمتان علمين على مؤنث، وأي كلمة يمكن أن تصبح علماً حتى أسماء الأجناس كأن نسمي رجلاً بـ( جبل)، ويرتفع اللبس حينئذ من خلال التركيب الجملي الذي يُستَعمل فيه ذلك الاسم.
والسؤال المترتب على ما مضى هو : هل المصطلح في قوة المكِّون الدلالي لاسم الجنس، أو في قوة المكِّون الدلال ي للعلم ؟
إن المصطلح العلمي قد يكون في قوة المكِّون الدلالي لاسم الجنس فلا يمكن تغييره، وقد يكون في قوة المكِّون الدلالي للعلم فيحتمل التغيير، فمصطلح علمي مثل : (النحو)، (الاسم)، (الفعل)، (اسم الإشارة)، (الجملة)، أو مثل : (الرياضيات)، (المستقيم)، (الزاوية)، (المثلث)، هي مصطلحات علمية لا يمكن تغيير مفاهيمها في مختلف لغات العالم، ولا يمكن أن يحدث خلاف في ترجمتها، لكن هنالك مصطلحات أخرى يمكن أن تتغير بتغير النسق المفهومي الذي توظف فيه فمصطلح (الخبر)، له مفهوم محدد في النحو العربي، وله مفهوم آخر في البلاغة العربية، وله مفهوم ثالث في علم الإسناد، ومثل ذلك مصطلح ( الشاذ) الذي له مفهوم في النحو العربي، وله مفهوم آخر في علم الإسناد،....إلخ
ولكن ذلك التغيير لابد أن يشير إلى اختلافات الحمولات الدلالية للمصطلح في مستويين : المستوى الأول هو مستوى النسق المفهومي الذي يضم المصطلح، والمستوى الثاني هو مستوى الحمولات الدلالية التي يحملها المصطلح في ذاته، ويختلف فيها عن المصطلحات الأخرى. وتتضح هذه الحمولات الدلالية إما من خلال تحديدها من واضع المصطلح، أو من خلال استعمال المصطلح أو من خلال الأمرين معاً.
إن النسق المفهومي (الذي هو جزء رئيس من الجهاز المصطلحي في منظومة معرفية ما) قد يكون من أكبر العوائق في تغيير المصطلح، خصوصاً إذا ما تغير المصطلح داخل النسق نفسه، أو تغيّر منتقلا إلى نسق مفهومي لجهاز مصطلحي في منظومة علمية مشابهة، في حين أن انتقال المصطلح من نسق مفهومي لجهاز مصطلحي إلى نسق مفهومي لجهاز مصطلحي مختلف عن الأول قد لا يمثل مشكلة كبيرة وهو ما كان يعبر به القدماء في الغالب بعبارة لامشاحة في الاصطلاح، أي أن لكل منظومة علمية مصطلحاتها الخاصة بها، ولا قيمة للاشتراك اللفظي حينئذ، ولا يجب الاختلاف حول معنى المصطلح بين المنظومتين؛ فالمعاني أكثر من الألفاظ؛ مما يؤدي بالضرورة إلى اشتراك لفظي في بعض المصطلحات ولكن استعمالها في المنظومة يحدد مفهومها المصطلحي...
ولكن كل العمليات التغييرية مسموح بها سواء أكانت بنقل المصطلح، أم بتبديله داخل النسق المفهومي نفسه، أم من نسق مفهومي إلى آخر مشروطة با(لفارقة المصطلحية العامة) داخل أو بين نسقين مفهوميين، وهذه الفارقة المصطلحية العامة من المستحسن التصريح بها في بداية المنظومة المعرفية، أما الفروق الدقيقة للحمولات الدلالية للمصطلح، فمن المستحسن التصريح بها من خلال ( الفارقة المصطلحية الخاصة) للمصطلح على مستوى المفهوم حتى يرتفع الاشتراك اللفظي الاصطلاحي، أو اللبس الاصطلاحي، أو الخلل العارض في إطار عملية النقل بوساطة الترجمة، ويقوم بدور هذه الفارقة التعريف الدقيق للمصطلح؛ « لأنه فضلاً عن توضيحه طبيعة المصطلحات، يسطِّر الحدود بين الأقاليم العلمية، ويحول دون تداخلها، ذلك لأن لكل إقليم لغته النظرية التي لابد من تعيين تعريفات لمصطلحاتها» ويعدُّ جزءاً من هذه الفارقة الخاصة في الكتب المؤلفة حديثاً - في الغالب - كشّافات الاصطلاحات التي توضع في نهاية الكتب العلمية...
فإذا لم يُصرَّح بالفارقة تصبح الفارقة المصطلحية الخاصة مرهونة، بطريقة أو كيفية استعمال المصطلح، ويصبح مستوى الاستعمال الخاص للمصطلح، وتواتر ذلك الاستعمال، وانتظامه مقياساً لتحديد مفهومه، وإذا كثر هذا المصطلح المعتمد على الكيفية الاستعمالية؛ فإنه في العادة يؤدي إلى أشكال مختلفة من سوء الفهم، ومن الخلل العلمي...
هاتان الفارقتان: الفارقة المصطلحية العامة والفارقة المصطلحية الخاصة – بصفة عامة- مهمتان جداً في عمليات انتقال المصطلحات ومن دونهما يحدث لبس مصطلحي قد يؤدي إلى خلل علمي.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة