يقولُ الشاعر الأندلسيّ لسان الدين بن الخطيب على لسان غادتهِ التي زارته في غيبهب الغسقِ: « من يركب البحرَ لا يخشى من الغرقِ!!»، وذلك صحيح في البحر، وفي الحبِّ أيضاً .. لكن ليس غالباً.
والغرقُ أيتها الغين الغاليةُ ماديٌّ، ومعنويٌّ اعتباريّ، فالناسُ تغرقُ في البحرِ، وتغرقُ في البرّ وعلى اليابسة في الهمّ وفي الدين وفي الكآبة، وفي الوهم والضياع.ِ
وأكثرُ الغرق إيلاماً وتأثيراً في نفوسنا هو غرقُ المهجّرين عن ديارهم وأوطانهم كأهل غزةَ وفلسطين، واليوم معظمُ أهلِ بلادِ العرب والمسلمين في المنافي القريبة والبعيدة مغتربون ولاجئون، وكذلك غرقُ المهاجرين غير الشرعيين المغلوبين على أمرهم، بحثاً عن العمل ولقمة العيش بعد أن ضاقت عليهم ديارهم وأحوالهم، وبعضهم يغرق في البحر لسوء القوارب، وجشع المهرّبين المخادعين، أو لسوء الأحوال الجوية، وكثيرٌ منهم يغرقُ في نارِ الغربة عند اكتشافهم أنها ليست الجنة التي صُوِّرتْ لهم، وأنّ الغربةَ وحشةٌ ومذلةٌ وهوان. والناس تغرق في الحبّ وفي العيون، والحب يقتل ويصرَع ويُغرِق ويحيي، وساحة الحرب والسلام العيون، ونحن نجد أمثلة غايةً في الجمال على ذلك في شعرنا العربيّ الجاهليّ وصولاً إلى العذريين فجرير، حتى نزار القباني، وقد أبدع من بينهم جرير وهو الهجّاءُ في قصيدته الغزلية الرقيقة:
بانَ الخَليطُ، وَلَوْ طُوِّعْتُ ما بَانَا
وقطعوا منْ حبالِ الوصلِ أقرانا
حَيِّ المَنَازِلَ إذْ لا نَبْتَغي بَدَلاً
بِالدارِ داراً، وَلا الجِيرَانِ جِيرَانَا
أعاذنا الله من البغي، وفيها أجمل وصف للعيون وفعلها الباغي الفتاك:
ما كنتُ أولَ مشتاقٍ أخي طربٍ
هَاجَتْ لَهُ غَدَوَاتُ البَينِ أحْزَانَا
يا رُبّ عائِذَة ٍ بالغَوْرِ لَوْ شَهدَتْ
عزّتْ عليها بِدَيْرِ اللُّجّ شَكْوَانَا
إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ
قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا
يَصرَعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ بهِ
وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا
ورويت: أضعف خلق الله إنسانا، وإنسانا أرق وأقرب وأجمل، فإنسان العين الحدقة.
قالت شكراً يا شاعري، فأنت لا تنفك تأتي بحرفي من كل بحرٍ موغلٍ في القدم، ومن كلّ غابةِ نثرٍ وغيمة شعر.
قلتُ لها لا شكرَ على جمالٍ، لكن دعيني أضرب لك مثلاً يوضح كيف يكون الغرق معنوياً فيقود إلى الغرق المادي الفعلي الجسدي.
إنه الغرق في وهم المعرفة، المصحوب بالغرور، وغالباً ما تبدو عوارضه على أصحاب السلطة والنفوذ والمال، ممن يغترون بغلبتهم وسطوتهم الآنيّة، متناسين في غفلتهم أنه لا غالب في البداية والنهاية إلا الله.
ومن أمثلتهم صاحب الجنتين في سورة الكهف، وقارون، وفرعون وهامان. وأمثالهم من ساسة ورؤساء الغرب والشرق وإسرائيل، كريجان وسلالة بوش، وثاتشر وبلير، وأوباما وكاميرون وساركوزي، ومائير وموفاز ورابين وشارون وشامير وليبرمان ونتانياهو، وغيرهم مما لا حصر لهم غرباً وشرقا.
هؤلاء البغاة لم يمتثلوا لرسالات الأنبياء كموسى وعيسى عليهما السلام، وإبراهيم الخليل ومحمد العربي الأمين خاتم الأنبياء، عليهما أفضلُ صلاةٍ وتسليم، وما فيها من حقٍّ وعدلٍ وحبٍّ ورحمةٍ وسلام، ولا بينهم أمثال الحواريين، والخلفاء العادلين عمر وأبي بكر وعثمان وعلي، مع ذلك لو بحثنا وتأملنا في تاريخنا القريب لوجدنا كثيرا من أصحاب الحكْم العدْل والحكمةِ والحبّ والخير والتواضع والانحياز للناس وحقوقهم، والمقاومين للاحتلال والظلم والعدوان، كغاندي، والبنغالي طاغور الذي نال جائزة نوبل عام 1912م عن ديوانه « قربان الأغاني» وغيره من نتاجه الغزير، ومانديلا وغيفارا، وعمر المختار، وجبران. ولو أخذنا فرعون مثالاً للطغيان والاستكبار والغرور والغرق لوفى وكفى:
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (38) القصص. أليست هذه هي الحالة النفسية لطغاة العالم اليوم الذين يمثلون مع الغباءِ الجهلَ بالجغرافيا والتاريخ والمجتمعات والشعوب، والاستكبار بجهلهم وطغيانهم على العالمين؟!
بلى، فهم يبنون على الجهل والمغالطات والمراوغات الحمقاء المفضوحة صروحاً ومنابر لأكاذيبهم ليسوغوا لشعوبهم، وبغاث الأمم المتحدة، وغلاة مجلس الأمن، شن الحروب والغارات والغزو والعدوان على بقية العالم!!
ولكن، هل كانت نتيجة غايات فرعون المريضة، وأوهامه غير الغرق؟!:
(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42).