إنَّ تمثيل العلاقات داخل الجماعات المتطرفة وخارجها هو تكوين ذو إطار زمني ومكاني مخصوصين يحجزان وحدات تمثيلية ذات عقيدة أُحادية بالثبات؛ وهو ما يجعل الكيفية الخصوصية قاعدة تكوين وائتلاف لوحدات ذلك التمثيل.
والحجز مقصود داخل تلك الجماعات للتهيئة الكيفية، وها هنا لا نبتعد كثيراً عن تأثير «فلسفة العزل» المكاني والنفسي والفكري ومرحلتيه «الاختياري والتوطيني»، ومرحلة التوطين الانعزالي هي مرحلة خاصة بالجيل الثاني من الأنوات المتطرفة؛ أي شرائح الأنصار والمهاجرين من متعددي الجنسيات، ولا شك أن الجماعات المتطرفة استفادت بالتطبيق من الفكرة الاقتصادية الرأسمالية القائمة على شركات تعدد الجنسيات لتقوية تواجدها في السوق العالمية.
وهذا أمر آخر؛ أقصد علاقة تكوين الجماعات المتطرفة بالسوق الاقتصادي العالمي والتأثير في حركته.
إن فكرة التطرف غالباً ما تُصاحب العزل؛ لأنها قائمة على الانفصال عن دائرة العموم والابتعاد عن كل إطار مُشابه لدائرة العموم تلك أو مجوّز للمطابقة الحقيقية أو الصورية.
ولتأكيد حرية الانفصال عن المشابه والمطابق تتجه فكرة التطرف المتدثرة بالعزلية نحو ما يتجرّد من دلالة التشابه والتطابق؛ أي نحو ما يمثّل دلالة الفراغ أو التجريدية التي لا تخضع لخلفية انتماء سابق، ولا يمكن أن تتوفر تلك الفراغية والتجردية إلا في الطبيعة ذات صفة الانعزال مثل «الصحاري والجبال»؛ لأن الفراغ والتجردية التي تتيحه نحوهما ثيمة الصحراء والجبل غالباً ما توفر للعزل الانفرادي عن العموم مقاصده وتخلص وعيه من أحكام العموم وقوانينه، كما ترفع تمحوره حول ذاته حتى تشدّ حديته نحو العلاقات المحيطة به.
ولذلك ارتبطت القاعدة الأولى لنشأة الجماعات المتطرفة بالصحاري والجبال، حتى أضحت موطناً لها، ولطبيعة المكان دلالته بالتأكيد، فكلما ابتعد المكان عن ماهية المدنية رُفعت عنه «شرعية القانون» سواء بالالتزام أو التطبيق أو المساءلة، وهو رفع يُبيح لصاحبه تطبيق قانونه الخاص، وأصبح لذلك المكان «قانونه الخاص» الذي لا يعترف بشرعية قانون المدنية وهو أمر كما هو موجود في محميات المتمردين والمتطرفين فهو أيضاً موجود في محميات العصابات، وتلك في نظر الجماعات المتطرفة شرعية مُلِزمة للآخر، وإثبات الإلزام يستوجب حتمية التطبيق، وهو يدفع تلك الجماعات إلى تنفيذ قانونها على أرض الواقع من خلال إحياء فكرة الأسرى والفتوحات والجزية والتهجير.
إن فكرة تمثيل «النموذج الإحيائي» فكرة تقوم على «إعادة حيوية الزمن» وهي حيوية تقتضي التمثيل بالتقمُّص والتقليد على مستوى الشكل والمضمون، وبما أن الشكل هو الدال الظاهر الثابت للمضمون الخفي، تتأخّذ الشكلانية قيمة تتوازى مع المضمونية لأنها ممثل ترميزي له.
ولذا لا نندهش من «الثيمة الشكلانية» للجماعات المتطرفة التي تتطابق مع طبيعة المكان الذي تستوطنه تلك الجماعات من صحاري وجبال، وذلك إثبات بالبرهان لفجوة الخلاف بالمقارنة الضدية بينها وبين المجتمع المدني، كما أن ذلك الإثبات بالبرهان إيجاز لفكرة الصراع التي تسعى الجماعات المتطرفة إلى ترويجها لاستباحة المجتمعات المدنية.
وهو ما يؤثر على اندماج تلك الجماعات مع القيم الحضارية بما فيها علاقتها بالآخر ليس الآخر المحصور في النوع، بل إضافة إلى ذلك ما يمثله الآخر من قيم تشاركية تُضيّق المخالِف وتوسع المشترك وتوطن المختلف.
كما أن تلك المحصورية تُلغي إلزامية الأنا المتطرفة بأدبيات ووثائق حقوق الإنسان العالمية، إلغاء قائم باعتبار المخالف المضيق والمشترك المفتوح للمعايشة والاندماج التوطيني للمختلفات، وهذا بدوره يُسقط «ثنائية التفاضل والتكامل» التي تبني «الأنا المتطرفة» قيمتها من خلالها، وهنا يتبلور الآخر بالنسبة للأنا المتطرفة لا كونه مسألة فكرية إنما مسألة يُحدد في ضوئها «قيمة الموُجِد مقارنة بالموجود»، فالعزل الانفرادي يربي الأنا المتعاظمة بالتطرف.
إضافة إلى أن ذلك الاحتجاز لوعي الأنا المتطرفة هو مضر بدوره بالتطور البنيوي والفاعلي للزمن وإحداثياته، كما أن فكرة الآخر انطلاقاً من مسطرة تلك الاعتبارات هو «عدو»، وهذه الدلالة المضافة لمفهوم العدو هي التي تشرع للأنا المتطرفة استباحة الآخر وبذلك يصبح كل آخر هو «مشروع لأسير ورهين» لدى تلك الجماعات تُبرهن من خلاله لقانونها الخاص الذي يتحدى القانون المدني.
إن الدلالة التي يمثّلها الفرد في شرعية تلك الجماعات لا تختلف كثيراً عن الدلالة التي تُنظّر من خلالها بالنسبة للفرد خارجها، فالفرد جزء من عقيدة الجماعة ولذلك فهو سلاح متحرك، ولا يُمكن أن ننكر أن ذلك هو تمثيل وظيفي في ذاته وهو قيمة؛ لأنه مغذٍ لفكرة التضحية من أجل عقيدة الجماعة، وهذا الفكرة تتعارض مع التعريف المدني للفرد الذي ينص على أنه ممثل وظيفي للمجتمع يحظى باستقلالية فكرية وحقوقية تتوازى مع المنظومة الاجتماعية، وتلك الاستقلالية لا تجعل الفرد المدني بالضرورة تابعاً لمعتقد النظام الذي يحكمه أو يتحمّل قرارات ذلك النظام، وهنا سنلاحظ الفرق بين مفهوم الفرد في محميات تلك الجماعة والمجتمع المدني، هذا المفهوم الذي تفرضه تلك الجماعات على الفرد خارج محمياتها لتجعله كما الفرد داخلها جزءاً من عقيدة نظامه الحاكم، وهذا التصرف هو الذي يُشرّع لها الانتقام من كل فرد ينتمي مدنياً إلى ذلك النظام الحاكم، وهذا الانتقام أو التهديد بالانتقام هو استغلال لقيمة الفرد في المجتمعات المدنية والقوانين الضامنة لحقوق الفرد وارتباط الحكومات بإلزامية دستورية وشرفية لتحقيق تلك الحماية.
هذه الجبرية الاتحادية بين الفرد المدني بعقيدته المختلفة مع عقيدة النظام الذي يحكمه هي رؤية تعيدنا لفكرة «عسكرة الفرد» وهي فكرة حاصل إحيائية إعادة حيوية الزمن، الذي تربت الأنا المتطرفة من خلالها وفق برمجة المحميات الانفرادية.