لن ألج في تفصيلات تأريخية حول الاستشراق وبداياته وإيجابيته وسيئاته...، وإنما سأتطرق إلى تأثير المفهوم، وتأثير العقل المؤدلج والعقل الشفاهي أيضاً في إدراك ظاهرة الاستشراق والتعامل معها.
تأتي ترجمة مصطلح Orientism، وفي الغالب ما تكون ترجمة المصطلحات المنتهية باللاحقة (ism) بإضافة ياء المصدر الصناعي وتاء التأنيث دلالة على أن المصطلح يشير إلى حركة أو مذهب أو تيار، أو فرع معرفي، وربما كانت الدراسات الشرقية أنسب للتعبير عن هذا المصطلح... ولكن ترجمته إلى (استشراق) أي طلب علوم الشرق هي ترجمة أبعد عن الترجمة المصطلحية الدقيقة في الصياغة على الأقل.
وفي الظن أن هذا المصطلح نشأ أولاً من خلال وصف من يقوم بدراسة علوم الشرق (بمستشرق)، ثم انتقل المفهوم الاصطلاحي من الوصف الفردي للاسم المشتق لمن يقوم بهذا العمل إلى ما يقوم به وهو (استشراق)، والكلمة ما زالت في مفهومها في حدود الطلب الذي يفهم من (الألف والسين والتاء)، أي أنه ما يزال يطلب علوم الشرق، فإذا طلبها وحصل منها جملة أو أنتج فيها إنتاجاً فقد جاوز الطلب إلى التحصيل، وأصبح ما أنتجه حصيلة الاستشراق، وليس هو الاستشراق، أي أنه انتقل إلى طور جديد، فعلى سبيل المثال عندما نقول: استخبر فلان أي طلب الخبر، فإذا حصل على الخبر لم يعد مستخبراً. من هنا ندرك أن مفهوم مصطلح استشراق في الإدراك العميق الذي يؤثر دون شعور في الإدراك السطحي يشتمل على الطبقات المفهومية الآتية:
- أولاً: في بداية التكون ارتبط بالفرد الذي يقوم بطلب علوم الشرق (مستشرق) ثم صيغ مصطلح استشراق لا يدل على ما ينتجه المستشرقون من دراسات.
ثانياً: أنه يدل على عدم اكتمال الفعل وإنما طلب الفعل أي أنه حالة غير مكتملة.
ثالثاً: أنه يشير إلى جهات ويشير في مضمونه إلى (آخر).
هذه الطبقات المفهومية التي يمكن الوقوف عليها نعتقد أنها أثرت في إدراك معظم الدارسين العرب في تقويم المنتج العلمي أو في اتخاذ موقف علمي تجاه ما قام به دارسو الدراسات الشرقية من الغربيين، فتم النظر إلى ما يقومون به من خلال أنهم (أفراد) غرباء يستعلمون عن شيء ولا يمكن أن يحصلوه أو يصلوا إلى مستوى أهل العلم أو الجهة أنفسهم. هذه النظرة إلى الأمور بمقياس الفردية هي نظرة متأصلة في العقل الشفاهي الذي لا يستطيع التعمق في الكليات والمجردات حتى يقرنها بأشخاص أو جهات، كما أنها نظرة متأصلة في العقل المؤدلج الذي يميل إلى اتخاذ أعداء أفكاره في صورة جهات يمكن تحديدها أو في صورة أفراد ممثلين للفكرة العدوة ليستطيع مهاجمتهم لا النقاش حول الفكرة بالمقياس العلمي المجرد. وللأسف، فإن العمل المؤسسي الذي هو طبيعة معظم الأعمال في الغرب استطاع أن يصنع من الدراسات ما بز به الشرقيين وما سبقهم من حيث الكم ومن حيث النوع، بل أسهم في إظهار دراسات محورية في جميع التخصصات، إذ من النادر أن تجد فرعاً علمياً إلا وللمستشرقين فيه إسهام لا يمكن القفز فوقه.
وحتى يتم فهم الاستشراق فهماً عميقاً لا بد من تجاوز آثار المفهوم التي تتجلى في معظم الأبحاث والندوات التي تناولت الدراسات التي قام به الغربيون حول الشرق، ولن يكون ذلك إلا من خلال العمل العلمي المؤسسي الاستراتجيي مع أخذ عالمية العلم كمبدأ ومنطلق في الدراسة والتحليل والمقارنة والاحتكام إلى قوانين المعرفة لا دوافع الإيديولوجيا...
حينما قرأ تودروف كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد قال إن هذا الكتاب لم يكتمل، فقد بقي نصفه وهو دراسة صورة الغرب عند الشرقيين. وأعتقد أن هذا ما يراد له مؤسسات استراتجية تنشأ بعيداً عن تأثيرات الإيديولوجيا وبعيداً عن النظرة الجزئية للمعرفة وبعيداً عن العقل الشفاهي الذي يتغلغل في بعض أحكامنا وتصوراتنا دون أن ندري. فإذا كان هنالك في أمريكا وكندا أكثر من 130 مركزاً يدرس اللغة العربية والإسلام والتراث العربي وأحوال العرب الآن بحسب الملحقية الثقافية السعودية في واشنطن، فكم يا ترى لدينا من مركز لدراسة الغرب علمياً وليس إيديولوجياً. حينما تعرفون الإجابة ستعرفون المسافة الواسعة التي تفصل بين ما ينتج هنالك من علوم وما ينتج هنا من إيديولوجيا واللامعرفة إلا ما ندر، ولا حكم للنادر..
د. جمعان عبدالكريم - الباحة