هيأت الوسائط الجديدة فرصاً غير محدودة أمام الكتاب والمبدعين، وسُحب بساط قديم من الوسائل التقليدية دون مقاومة أو محاولة لتحديث الآليات والمبادئ وأنماط النشر، أو التنازل عن بعض الوصاية التي لم تعد تجدي وتضيق بها صدور الجيل الراهن.
تبعاً لذلك تكاثرت الأصوات الإبداعية، وتزايدت وتيرة النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتعددت أشكال النصوص التجريبية من سرد وشعر وقراءات نقدية ومسرح وتجارب في الفن التشكيلي والضوئي لم تكن معروفة من قبل، لكنها تعمل بشكل مغاير، وتقدم نفسها بثقة عالية، ولا تنشغل بالوسيط كثيراً مقدار اهتمامها بالحفارة الراهنة وردود الفعل الآنية من أصدقائها الافتراضيين في الحدائق الرقمية المدهشة؛ إذ تُرضي الذات الإبداعية كثيراً من غرورها، وتُعلي احتفاءها بنصها ومنتجها الإبداعي بغض النظر عن شروط البقاء أو الأثر المستمر الذي ذوبته الوسائط الجديدة، فلم يعد هاجساً، أو هدفاً ولا غاية.
يتيح المبدع اليوم نصاً فيقرؤه ويتفاعل معه كثيرون، ربما تفوق أعدادهم جمهور الأندية الأدبية في عام كامل. والجمهور الجديد قد لا يكتفي بالإعجاب أو التعليق، بل يشارك، ويسعى إلى توسيع دوائر التحليق والتشابك مع منصات عدة لا حدود لها ولا رقباء يستعرضون فضل مقصات في حماية الإنسانية أو إلباس الفكر أكمام الحجر والتضييق كما ابتليت الوسائط التقليدية.
كل هذا يأتي في صالح المبدع وتحرره من الأنساق العتيقة ضمن عمليات التواصل، لكنه لا يغنيه عن أعراف النشر وأدبياته باعتباره صناعة ومهارة ذات أصول وقواعد تبدأ من الجوانب الشكلية للنص، وانتهاء بحجم الوسيط وطرائق الانتفاع وحماية الملكية الفكرية.. وقد تغيب عناصر من ذلك عن بعض المبدعين أحياناً؛ لأنها عمليات مؤسساتية في جوانب منها، تتطلب فهماً وحسن ممارسة.
وبعض هذا قد يفرض على المؤسسات الثقافية والأدبية أدواراً لم تؤدها من قبل، مثل تقديم الدورات التدريبية في أصول الكتابة والقواعد النحوية والإملائية، وصناعة الوسيط أيضاً. وقد بادر نادي المدينة المنورة الأدبي إلى ذلك، ووعد نادي جدة بشراكة مع المؤسسات التربوية، ولم يفعل كعادته مع مبادرات أخرى.. والأجدى أن يستفاد من هذه الدورات من جميع المستهدفين على اختلاف مواقعهم ضمن تقنيات الإتاحة المتزامنة أو الأرشيف الثقافي المتاح عبر الإنترنت.
أتوقع نجاح مبادرات تقودها المؤسسات الثقافية للاحتفاء بالأسماء المبدعة في الفضاء الرقمي الاجتماعي، فتُصدر لها أعمالاً مستقلة أو أعمالاً جماعية. ولو اهتمت بذلك فإنها ستجد موهوبين كثيرين، لا علم لهم بالمؤسسات الثقافية، ولا يعولون عليها، ولهم العذر، لكن المؤسسات غير معذورة حين لا تجدد أهدافها وطرائق البحث عن المبدع والاحتفاء به.
وفي الجانب الآخر، أرى ضرورة حضور المؤسسات الثقافية في الوسائط الرقمية الحديثة، وتعيين ممثلين لها من الشباب المبدعين المثقفين أنفسهم، ممن أحسنت تدريبهم وتأهيلهم، فتمنحهم مكافآت دائمة تعزيزاً للأدوار التي سيؤدونها، وهي أكثر نفعاً من العمل النمطي الذي يهيمن على أروقتها.
وعلى الجانب الآخر، هناك تجارب لبناء المكتبات الرقمية من طرف قطاعات علمية وأكاديمية، لكنها غائبة عن أعمال المؤسسات الثقافية والأدبية، ومثلها المكتبة السمعية، سوى تجربة محدودة لنادي حائل. وهذه الأعمال تتطلب تآلفاً بين المؤسسات لخفض التكاليف وتوسيع دوائر المستفيدين، وتعايشاً مع المتغيرات التي انشغلت عنها القطاعات الثقافية بصراعاتها الداخلية، فلم تقدم فيها شيئاً يعوّل عليه رغم الميزانيات الكبرى التي تتلقاها سنوياً.
محمد المنقري - جدة