إنَّ فكرة الموت أو الوفاة التي يطلقها النقاد على النظرية أو الفكر، إنما هي فكرة تحمل في طياتها الإيمان التام، كما أنها تستكنه الحَدّية بين الأفكار، والأفكار أو النظريات تتخذ منحىً جدليًا/ديالكتيكياً على مرِّ التاريخ الفكري والتنظيري أكثر من اتخاذها المنحى الإقصائي، وما الموت أو الإماتة إلا محاولة دحض للفكر واستبدال شيء من لا شيء، وهذا غير مسلمٍ به منطقياً. بمعنى أن الأفكار والنظريات تنبني من مثيلاتها السابقة، فلولا البنيوية لما أوجدنا التفكيكية، ولولا الفلسفة المثالية لما رأينا الفلسفة الوضعية ولما صار لدينا الفلسفة الهوسرلية الظاهراتية. فالجدل وحده هو الذي يبني الفكر، ولعل فكرة هيجل التي تعتبر الديالكتيك الفكري هو الأساس في استيلاد الأفكار، فمن الفكرة ونقيضها تولد الفكرة الجديدة التي توجد نقيضها معها فيكوّن النقيضُ فكرةً حديثة وهكذا.
فهل ممكن لنا منطقياً أن نعرف ما بعد الحداثة دون إدراك الحداثة النقيضة؟!
وهل لما بعد (ما بعد الحداثة) أو لنهاية ما بعد الحداثة وجود لولا الإيمان بالفكرة ونقيضها؟!
بل وهل للتأويلية الرشدية وجود لولا وجود تأويلية الغزالي وتأويلية المعتزلة وظاهرية السلف؟!
ولعل استحضار الجدل الفكري عند التعامل مع النظريات أيًا كانت هاته النظريات يعفينا من (الإماتة) ويعفينا من (الإقصاء) الفكري، فالموت أو الوفاة ما هو إلا إحالة فكر مكان فكر ونظرية مكان أخرى، وهذا الجو (الإماتي) جو ملبد بإشكال الأحادية التي تسحب منه هوية الحرية الفكرية، وبالخصوص في مرحلة التعددية التي نعيش آنيّتها.
لا أعتقد أن الإشكال منوطٌ بـ(المابعد) كتحقيب للفكر الإنساني ومحاولة لتصنيف الأفكار منطقيًا حتى يكون التعامل معها منهجياً لا تشرذمًا معرفيًا، بل إن (المابعد) هو مطلب فكري في مرحلة تموج بالأفكار حتى جعلت ستيفن هوكينج يفكر في مرحلته الفكرية الفيزيائية ب(نظرية كل شيء)، وهو ما جعله ينقض فيزياء الكم والنسبية العامة الفيزيائية، وهي ذاتها المرحلة التي ولّدت التفكيك والتشتيت وحطّمت المنهجية والمناهج والنظريات الفلسفية القائمة على اللوغوس الأحادي المركزي.
لذا فإن إعلان الوفاة هو إعلان (الأحادية) وهو أيضاً إعلانٌ لـ(الإقصاء) وهو محاولة لاستحداث شيء من لاشيء، وهو إنكار للتاريخية الفكرية والزمن الفكري الذي تربّت فيه هاته الأفكار والنظريات مما يحتم علينا الإيقان بصعوبة الإماتة.
ولعل فكرة (من.. إلى) هي الأكثر منهجية ومعرفية، إذ إنها تؤمن بالتغيير والتحول لا الإماتة، لذا فإنها تحفظ العهد الفكري الذي أُنجبت فيه سالفتها، وتلغي الركون إلى الفكرانية الأحادية المنطوية على ذاتها باعتبار (من.. إلى)، وبهذه الصيغة تحضر الـ(من) الفكرة السالفة كما تحضر الـ(إلى) الفكرة الحديثة، وحضورهما دليلٌ على الجدلية/الديالكتية لا الإلغاء والإماتة.
وأما طرح الدكتور جمعان لإحلال الدراسات الخطابية محل الدراسات الثقافية، فهذا يدل على تمييز في مصطح الخطاب، باعتبار الخطاب ليس ثقافيًا، والثقافة التي يركز عليها النقد الثقافي أو الدراسات الثقافية إنما هي في باب الخطاب سواءً أكان هذا الخطاب أدبيًا أم غير أدبي، والدراسات الخطابية ذاتها تهتم بالخطابين الأدبي وغير الأدبي، والأدبي سردي وغير سردي.
ولعل الأسلوب الأدبي الذي طرح به الدكتور جمعان أفكاره ينمّ عن تسطيح لمنهجية النقد الثقافي التي ابتدأت منذ إدوارد سعيد بـ(الاستشراق) وهومي بابا بـ(موقع الثقافة) مما جعله يعتبر «كاتبو النقد الثقافي لا يتعدى ما يكتبه الصحفيون السطحيون من انطباعات ومن تسويد الصفحات بثرثرة لا قيمة لها ولا وظيفة لها سوى التمسك بحالة الفراغ الفلسفي والمعرفي والنقدي الذي نعيش»، فهل له أنْ يعتبر (الاستشراق) ثرثرة؟!
وقد نتفهم إشكالات تنظير الغذامي للنقد الثقافي التي حصرت النقد الثقافي بالقبحي، وقضت على نظريات الجمال بإماتة النقد الأدبي، لكن من غير الممكن لنا أن نجعل هاته الأطروحات (ثرثرة)!
ولعل الدكتور جمعان سيفيض علينا بالفروقات بين الدراسات الثقافية والدراسات الخطابية التي أحللها مكان (الميّت).
صالح بن سالم - المدينة المنورة