لا شك أن «عاصفة الحزم» استطاعت أن تغير قواعد لعبة الفارسية الجديدة في المنطقة، ليقتسم العرب اليوم «فكرة التنين» مع «إيران»، وهو اقتسام أصبح جلياً من خلال الخطاب السياسي العالمي، فعاصفة الحزم أصبحت تأريخاً على مستوى العلاقات العربية - الإيرانية، فعلاقة العرب مع إيران ما قبل عاصفة الحزم ليست ذاتها بعد عاصفة الحزم، وهو ما سأفصله في موضوع مستقل.
ختمت موضوعي السابق بسؤال هل تكره إيران العرب؟.. وقبل الدخول في تفاصيل هذا السؤال علينا التوقف أمام النقطة الآتية التي أرشدني إليها مقال الدكتور إبراهيم التركي «مركب الأسنّة» عدد يوم الخميس 2/4/2015م.
وهي نقطة تبحث في حاجز الفرق بين العرب وإيران، ذلك الحاجز الذي أوجزه مقال الدكتور التركي عندما يخلط الغرب بين العرب والإيرانيين باعتبار وحدة الدين، أو عندما تظن إيران أن المنطقة وشعوبها جزء من ممتلكاتها، فالعرب لا يمثّلون إيران كما أن إيران لا تمثّل المسلمين، أو كما يقول التركي: «كي يعوا أننا لسنا هم دون أن ندّعيَ فضلًا لنا كما لا نقرُّ بفضلٍ لهم».. فحاجز الفرق ها هنا عبر الاختلاف أو الخلاف ليس تمييزاً ضد أحد كما أنه لا يُثبت مفاضلة لطرف دون طرف.
لا شك أن العلاقة بين العرب وإيران علاقة يعتريها الكثير من التشابك والتلابس التي تجعل القطعية في إصدار حكم ثابت غير مضمون الموضوعية، ولذلك يظل الاستدراك في هذا المقام لازماً قابلاً للتمدد والانكماش، ويمكن القول إنه انكماش أو تمدد يتم وفق فعل وردة فعل، وهو أيضاً انكماش وتمدد حاصل توصيف غير مضبوط بحدود معروفة لنوع علاقة وهيئتها، وهو ما يجعل مفاهيم مثل العدو أو الصديق أو الأخوة متدخلة بصورة مضطربة لا يُمكن الفصل بينها.
وبذلك تصبح علاقتنا بإيران متحركة وفق ذلكما المسارين، مسار الفعل وردة الفعل والمسار الآخر عدم وضوح العنوان الرئيس الذي ينظم علاقة العرب بإيران.
فإيران تختلف عن إسرائيل على الأقل في الظاهر، فإسرائيل عدو العرب ظاهراً وباطناً بالاستعمار لفّقت ماضيها الجغرافي على حساب تاريخ العرب، والعلاقة بين العرب وإسرائيل واضحة التوصيف جليّة الحدّ.
لكن إيران وفق الظاهر دولة إسلامية تجتمع مع العرب تحت مظلة منظمة العالم الإسلامي، وهي غير مستعمِرة لأي أرض من الأراضي العربية قانونياً ورسمياً، رغم اكتواء المنطقة كما يقول التركي «بكرههم لما هو عربي وما هو سنيّ فاتسعت مسافات الفصل وتضاءلت روابط الوصل».
ولها ماضٍ مُثبت تاريخياً ترى أنه أعظم من تاريخ العرب، وذلك الظن هو الذي أسس عندها «نهجاً عدائياً اتخذ النار بديلاً للحوار، والتصادم نائباً عن التلاحم والإيذاء الممنهج والضجيج المبرمج «- مقالة مركب الأسنة / التركي -
لكن ما يعتقده العرب أنها دولة فارسية لا يُمكن أن تُصبح جزءاً من تاريخ العرب، ودولة تقود مذهباً دينياً لا يعترف به الكثير من المسلمين، ودولة يعتقد العرب أنها تسعى إلى استعمار المنطقة «لفرسنتها»، وهو ما يجعل إيران وفق خارج «إجماع كلي عربي» خارج أي توصيف خاص وواضح.
كما أن إيران تختلف عن تركيا، فعلاقة العرب بتركيا واضحة التوصيف جليّة الحد، فهي ظهير قوي للعرب والمسلمين وتحظى بمحبة الحكومات العربية وكذلك الشعوب العربية، وإن كانت هناك مشاعر استثنائية تنفصل عن العمومية السابقة، فتمدد التأثير الجيد لتركيا على المستوى الرسمي والشعبي داخل المجتمعات العربية يزرع توجساً ما داخل نفوس بعض المستشرفين وبصّاري التوقع المستقبلي بأن ذلك التأثير الجيد هو تمهيد لإحياء «العثمانية الجديدة»، وهؤلاء - أقصد المستشرفين - لا يرون أي فارق بين إيران وتركيا في سعي كلتيهما لإحياء التاريخ القديم؛ الأولى تحت مسمى «الفارسية الجديدة»، والثانية تحت مسمى «العثمانية الجديدة».
لكن الشعوب العربية نحو تلك الاستشرافات لا تشعر بخطر، ولعل سبب ذلك هو التجربة النهضوية لتركيا التي تبهر المجتمعات العربية، كما أن تركيا خلاف إيران، لا تحمل خلفية تاريخية عرقيّة لأنها من صناعة المسلمين وحتى تاريخيتها العثمانية ليس تاريخاً عرقياً بقدر ما هو أيديولوجيا يرتبط بتاريخ عاطفي في الوجدان العربي، والسبب الأهم من ذلك «سنّيّة تركيا» فتركيا دولة إسلامية سنيّة، وهو ما يرفع التفاعل الوجداني العربي نحو تركيا ويبدد مخاوف فكرة المؤامرة في إعادة العثمانية الجديدة.
خلاف موقف الرسمية العربية وشعوبها من طموحات إيران في خلق الفارسية الجديدة، التي تتصف بخلفية تاريخية مخالفة لتاريخية العرب وتقود مذهباً دينياً مخالفاً لمذهب غالبية العرب والمسلمين، ونصف تلك الغالبية تؤمن ببطلان ذلك المذهب وهو ما يضع إيران وفق ذلك النصف المؤمن ببطلان مذهبية إيران في خانة «الكفر والكفار».
هل تكره إيران العرب؟
لو تأملنا حدود إيران سنجد أنها مُحاطة بالعرب والمسلمين ذوي الأغلبية السنية من خلال حدودها مع أفغانستان وأذربيجان وتركيا ذات الغالبية المسلمة السنية.
هذه الطبيعة الجغرافية لا يمكن أن نغفلها، ونحن نحلل إستراتيجية مواقف إيران نحو جيرانها.
فتلك الإحاطة سواء على المستوى النوعي «العرب» أو المذهبي»السنة» بالإضافة إلى معرفتها تمام المعرفة بنظرة جيرانها العرب نحوها باعتبارها عنصراً فاسداً يروّج لتاريخ ميت ومذهبية دينية باطلها أكثر من حقها ونيتها المبيتة للاستيلاء على المنطقة لإحياء الإمبراطورية الفارسية الجديدة.
كل تلك العناصر جعلت إيران دولة غريبة ومنبوذة في المنطقة.
وهذا الإحساس بالغربة والنبذ هو ما دفع إيران إلى إيجاد «معوِضات» تتوازن من خلالها مع قوة الكم العددي والمذهبي اللذين يحيطان بها، أو تحاول أن تتقارب مع القوة العربية من خلال تنبيت أزرع مسلحة لها وسط المجتمعات العربية، لترهص «للإرهاب الميلشوي»- التركي - مركب الأسنة -.
بدأت العلاقة الملتبسة بين العرب وإيران بعد «الثورة الإيرانية» عام 1979م ورغم كل التحليلات التي ذهبت إلى أن «الثورة الخمينية الدينية» في إيران هي المقابل «للثورة الوهابية الدينية» في شبه الجزيرة أو هكذا كان مقصد ومراد من ساند تلك الثورة وضمن تمكينها.
لكن يبدو أن ذلك المقصد التوازني الذي خُلقت من أجله « الثورة الخمينية» قد تجاوز مراده ليتمدد من خلال تصدير الثورة الخمينية إلى المنطقة العربية فغيض الماء و»اغترب دجلة العراق وفرات سوريا وجنوب لبنان وباب اليمن تحت رايات كسرى» - التركي - مركب الأسنة -.
ومن يقرأ إرهاصات الثورة في عهد الملكية الإيرانية سيلاحظ أن تلك الإرهاصات كان منشؤها اقتصادياً وسياسياً، فالبذخ والإسراف اللذان كانت تمارسهما الأسرة البهلوية مقابل الضنك الاقتصادي للشعب وارتفاع البطالة إضافة إلى القمع السياسي الذي كان شائعاً من خلال جهاز الأمن «السافاك»، وللتعبير عن ذلك الوضع الاقتصادي والسياسي المتأزمين ظهرت المعارضة الليبرالية في عهد الملكية البهلوية، أما المعارضة الدينية فبدأت مع الإصلاحات التي تبناها «شاه إيران» أو ما سُميت «بالثورة البيضاء» والتي أعلنت عن إعطاء المرأة الحق في التصويت والاقتراع وعدّلت قانون الأحوال الشخصية الذي يعطي للمرأة المساواة القانونية في الزواج، وإعطاء الأقليات حق التمثيل في البرلمان، وتوزيع ممتلكات رجال الدين الشيعة.
كل تلك الإصلاحات كانت مرفوضة من رجال الدين الشيعة، وذلك الرفض هو الذي أسس المعارضة الدينية في ذلك الوقت.
وبذلك تصدرت معارضتان إرهاصات الثورة الإيرانية؛ المعارضة الليبرالية والمعارضة الدينية.
ومن يقرأ تاريخ ما قبل اندلاع الثورة الخمينية في إيران أو الدينية أو إرهاصات التمرد على الملكية الشاهويّة سيلاحظ أن صوت المعارضة الليبرالية بجوار المعارضة الدينية التي كان يقودها الخميني، كان الحلقة الأضعف مع أنه الأسبق حتى بعد «نفي الخميني»،كان صوت الليبرالية في خفوت بينما كانت إرهاصات الثورة الدينية في إيران تقوى على مدار أربعة عشر عاماً سنوات «نفي الخميني»، وهو مؤشر دال على طبيعة الشخصية الإيرانية التي تميل إلى الطابع الديني، وهذه نقطة تشابه بين الشخصية العربية والشخصبة الإيرانية.
مرت الثورة الخمينية الدينية بثلاث مراحل، مرحلة البدء وهي مرحلة وجود الخميني في إيران ومرحلة الحشد والتمهيد، وهي مرحلة نفي الخميني والتي استمرت أربعة عشر عاماً ومرحلة عودة الخميني وسقوط الملكية البهلويّة.
وهذه الصناعة الهادئة للثورة الخمينية التي استمرت أكثر من أربعة عشر عاماً مرحلة النفي وما سبقها قبل سيطرة الثورة على حكم إيران هي التي ضمنت قوتها حتى يومنا الحالي.
إذا أتاحت سنوات «نفي الخميني» وهي سنوات «صناعة الثورة» «دسترة تعاليمها» و»فكرنة أبعادها النظرية» و»تأسيس الإجرائية الوظيفية لعقيدة ولاية الفقيه»، و»التخطيط الممنهج لغزو تلك الثورة المنطقة العربية وفرض هيمنتها عليها» أو كما أسماها علي رضا زاكاتي «الجهاد الأكبر».
- جدة