-1-
تمثِّل اللغةُ في أيّ أُمَّةٍ حَيَّةٍ خطًّا أحمر، سياديًّا، انتهاكه يعني انتهاكًا لكرامة الأرض ومَن عليها. إلّا في ديار العرب؛ فمع الكرامة العربيَّة ذهبت اللغة العربيَّة أدراج الرياح. وهذا ما تشعر به على نحوٍ جارحٍ في العواصم العربيَّة، في المطار والشارع والسوق وفي المحافل العامَّة والخاصّة. وممّا يُحمد لمهرجان «القلب الشاعري»- الذي أقامته (منظمة سوكا جاكاي الدولية- فرع الخليج العربي) في مدينة دُبي، خلال الفترة من السبت 7 فبراير إلى الأحد 8 فبراير 2015- مسعاه إلى منح المهرجان بعض هويَّته العربيَّة، بما أنه يقام على أرضٍ عربيَّة. ذلك أن الواجهة الدوليَّة، والتنوّع الإنسانيّ، لا يعنيان نكران المكان، وأهل المكان، ولا صبغ العالم بلونٍ لغويٍّ واحد. ومع هذا فما زال الأمر دون المأمول، فأنت تجد الإنجليزيَّة هي اللغة السيِّدة، بضرورة وبغير ضرورة، منذ التواصلات لترتيب الحضور إلى فعاليّات المهرجات. وإذا كانت اللغة الإنجليزيّة هي اللغة المشتركة بين المشاركين من أقطار العالم في مثل هذا المهرجان، فقد كان يجب أن تكون العربيَّة هي لغة الخطاب والإعلام؛ على الأقل لأسباب إعلاميّة وجماهيريّة من أجل استقطاب المتابعين في محيطٍ عربيّ. فحينما تُلقَى قصيدة بالإيطاليَّة، مثلًا، أو بالأوردو، أو الفارسيَّة، فما شأني أنا العربيَّ لتُترجم لي بالإنجليزيّة فقط؟! بيد أن الإشكال هاهنا بالغ التركيب، حضاريًّا وثقافيًّا؛ ذلك أن العربي نفسه يستنكف من لغته، ويعتزّ بالرطانة بسواها. لا أحد يدرك غالبًا من معنًى للغة سوى أنها وسيلة تواصل. لهذا ربما بدا موقفي المبدئي لفرض استعمال العربيَّة، على نفسي قبل غيري، إن في المراسلات أو الحفل أو الحوارات الإعلاميّة، محلَّ استغرابٍ واستصعابٍ أعقب احترامًا ورضوخًا. حتى لقد اكتشفتُ أن بعض الآخرين يُحسن التعامل بالعربَّية إلى حدٍّ مفهوم، لكننا نحن نصرّ على وأدها فينا وفيه، جهالةً وشعورًا حضاريًّا بالنقصان. وتلك جوانب لعل مهرجان «القلب الشاعري» يلتفت إلى ترميمها في الأعوام المقبلة؛ كي يعبِّر عن احترام سياقاته البيئيّة المكانيّة، لغة وشِعرًا وثقافة وفنًّا. عندئذٍ يغدو للإنسانيّة معناها؛ فالإنسانيّة تُنافي الاستنساخ الأبله لشخصيّة الآخر، والاستخذاء لهيمنة الثقافة الغالبة سياسيًّا والحضارة القاهرة ظرفيًّا.
-2-
من أهم الكُتب التي حظيتُ بها خلال المهرجان كتاب «في يديك تغيير العالم»، للدكتور (دايساكو إكيدا)، رئيس منظمة (سوكا جاكي) الدوليَّة، الذي تطرَّق المقال السابق إلى التعريف به. طُبع الكتاب في اليابان (مطبعة أساهي، 2002)، وترجمتْه إلى العربيَّة (هناء جميل زكريّا)، وصدر عن (سوكا جاكاي الدولية - فرع الخليج، 2011)، بتقديم الدكتورين (أيوب كاظم وشهاب غانم). وقد تضمن موضوعات حول السلام، تحت العناوين الدالّة الآتية: «شجاعة اللَّا عُنف»؛ «جِسر بين الحضارات»؛ «طريقة أخرى لرؤية الأشياء»؛ «أوقفوا القتل!»؛ وُجِدَ الدِّينُ من أجل السلام»؛ «ما زالت القلوب مغلقة تجاه العالم». إنك، كما يقول المؤلِّف، لا تستطيع إطفاء النار بالنار؛ ولذلك فإن إطفاء نيران الكراهيّة والإرهاب لا يتأتَّى بكراهيّةٍ وإرهابٍ مضادَّين؛ فالسلام لا يولَد إلّا من الرغبة في الإصغاء. كما يتناول الكتاب، في شأن تجسير الحضارات، أوّل قاموسٍ عربيٍّ يابانيٍّ، والصورة النمطيّة في اليابان عن العرب، وهي صورة منتَجة في الغرب، بطبيعة الإعلام المعاصر. والكتاب يرتكز بصفةٍ أساسٍ على فكرة العمل الروائي للكاتب نفسه بعنوان «ثورة الإنسان»، الذي يؤكّد فيه «أن ثورة عظيمة في حياة فردٍ واحدٍ قادرة على تحويل مصير مجتمع بأسره، بل على تغيير قدَر البشريَّة جمعاء.» وهو كتاب جدير بقراءة مستقلة. كما حظيتُ بنُسخة من كتاب إكيدا الآخر بالإنجليزيّة «رِحلة الحياة Journey of Life»، (مختارات شِعريَّة). أمّا الصديق (الدكتور شهاب غانم)، وهو عرّاب المهرجان، فقد اقتنيتُ من نتاجه الغزير كتابين جميلين هما: «مئة قصيدة وقصيدة»، وكتاب «بين قصيدتين: المنفصل-المتصل في زمن الإبداع»، وفيه مقاربات قرائيَّة وترجميَّة لقصائد عربيَّة وأجنبيَّة. ولا غرو فالرجل خرّيج المدرسة الغانميَّة الفيّاضة بعطائها الشِّعري والفنّي والعلمي كابرًا عن كابر. وكذا سعدتُ بالتعرف إلى السيّد (شرف عبده الهاشمي)، الرجل العصامي، الذي طوّف العالم من (عدن) إلى (القاهرة) إلى (لندن) إلى (الإمارات)، وتفضّل بإهدائي نُسخة من كتابه القيِّم «وفي بيتنا رجل حالم»، (السيرة الذاتيّة للأستاذ عبدالله عبده الهاشمي)، في نسختين بالعربيّة والإنجليزيّة. وهو كتاب يتجاوز السيرة الذاتيّة الفرديّة إلى سيرة جيلٍ مكافحٍ من أبناء اليَمَن، الذين خاضوا غمار الحياة بحُلوها ومُرّها.
-3-
وجاءت قصيدتي الثالثة في المهرجان بعنوان «راقصة التَّنْغُو»، التي تضمّنها ديواني الشِّعري الثالث، الذي صدرَ هذه الأيّام، بعد تعثُّرٍ وطول انتظار، «متاهات أوليس/ قيامة المتنبي»، (الدار البيضاء- بيروت: المركز الثقافي العربي- نادي الرياض الأدبي، 2015، ص211- 220)، وقد تلقّاها الحاضرون وزملاء الشِّعر والنقد بأصداء مميَّزة.
أَغْمِضْ عَيْنَيْكَ، تَعَالَ نَطِيْرْ!
في غَيْمٍ في إِغْمَاءِ حَرِيْرْ
شَلَّالٍ مِنْ عِطْرٍ غَافٍ
لا شَيْءَ لَهُ بِرُؤَايَ نَظِيْرْ
هَتَفَتْ.. أَخَذَتْ بِيَدِيْ.. هَيَّا،
هَلَّا لِلرَّقْصَ دَعَوْتَ أَثِيْرْ؟!
***
كَبَقايا مِنْ فُرْسَانٍ في
صَدْرِيْ وعلى كَتِفَيَّ تَسِيْرْ
ضَجَّتْ: كَلَّا ! لا أَلْوَانَ،
لا مُوْسِيْقَى.. اغْتِيْلَ التَّعْبِيْرْ!
لا أُحْسِنُ هذا الرَّقْصَ أنا
ومَعَارِكُ في قَدَمَيَّ تَدُوْرْ
لا أَدْرِيْ ما رَقْصُ (التَّنْغُوْ)،
أو حتى ما رَقْصُ العُصْفُوْرْ!
***
يا سَيِّدَتِيْ، مُوْرِيْ فِيْكِ،
والأَرْضُ دَعِيْها فِيَّ تَمُوْرْ
هذا القَصْرُ الكِيْرِسْتَالِيُّ
[م] فَرَاغٌ فَنِّيٌّ وخُصُوْرْ
ونُهُوْدُ (السِّيْلِيْكُوْنَ) جِرَارٌ،
لا تُرْوِيْ ظَمَأَ الجُمْهُوْرْ
وقَوارِيْرُ الشَّبَقِ العَارِيْ
تَنْدَاحُ على شَفَةِ المَخْمُوْرْ
حَمَلَتْ نُطَفَ الزَّيْتِ الأُوْلَى
مِنْ قَلْبِ النِّفْطِ إلى التَّنُّوْرْ
لَهَبٌ، بُرْكَانٌ ؛ لا عَقْلَ،
فالعَقْلُ كُوًى والناسُ طُيُوْرْ
والإِنسانُ الأَعْدَى أَبَدًا
لِلإِنسانِ، الأَدْعَى لِلزُّوْرْ
***
يا لَلأُنْثَى، كَمْ شَادَتْ مِنْ
مُدُنٍ، ولَكَمْ هَدَّتْ مِنْ دُوْرْ!
يا لَلأُنْثَى، الأُمِّ، الأُخْتِ، الحُبِّ
الكَنْزِ، المَعْنَى المَهْدُوْرْ
كَمْ عَزَّتْ مِنْ أُمَمٍ بالأُنْثَى
كَمْ ذَلَّتْ حِقَبٌ وعُصُوْرْ
يا راقِصَتِيْ، الأُنْثَى: أَمْنٌ
وسَلامٌ، أو جَيْشٌ وعُبُوْرْ
كُلُّ الدُّنْيَا الأُنْثَى، وعَلَيْها
كُلُّ الأُخْرَى سَوْفَ تَدُوْرْ
***
مَنْ قالَ : (الأُنْثَى شَيْطَانٌ)؟
فابْنُ الشَّيْطَانِ هُوَ المَغْرُوْرْ!
مَنْ قالَ: (المَرأةُ عارٌ) فَهْوَ
وَلِيْدُ العَارِ أَتاكَ يَخُوْرْ
المَرأةُ مَنْزِلَةٌ عُلْيَا
بَيْنَ الإِنسَانِ وبَيْنَ النُّوْرْ
وُئِدَتْ في بَحْرِ غِيَابٍ، وابْتُزَّتْ
- دَجَلًا - في بَرِّ حُضُوْرْ
***
سَلْ (لَيْلَى) / (لُوْ أَنْدِرْيَاسَ):
ما ذَنْبُهُما إنْ جُنَّ صُقُوْرْ؟!
مَنْ كُلُّ المَرأةِ صَيْدُهُمُ:
جِنْسًا، أو مُلْكَ يَدٍ، وبَخُوْرْ
مُذْ (قَيْسٍ) حتى (نِتْشَةَ) والسَّوْطُ
الضَّارِيْ بَرْقٌ مَسْطُوْرْ
وكذا يَحْكِيْ (زارادِشْتُ)
في جَهْلٍ نِسْبِيٍّ مَشْهُوْرْ
كَتَبُوا: هِيَ حَيَّةُ آدَمَ، أو
قالُوا : مَوْتُ الرَّجُلِ المَغْدُوْرْ
***
أَ ذُكُوْرَةُ هذا الكَوْنِ بِنَا؟
أَمْ أَنَّ الأُنْثَى داءُ ذُكُوْرْ؟
هَمَسَتْ، فارْتَفَّ نَوارِسُها،
وتَكَسَّرَ صَمْتٌ مِنْ بَلُّوْرْ:
أُنْثَى.. ذَكَرٌ.. ذَكَرٌ.. أُنْثَى،
لا فَرْقَ، ضَحايا هُمْ ونُذُوْرْ
تَئِدُ الأُنْثَى الأُنْثَى، وتُمَزِّقُ
شَرْنَقَةً أُنْثَى الزَّنْبُوْرْ!
وسَيَلْتَهِمُ الجُبُّ يُوْسُفَهُ
ويُحَمْلِقُ في وَجْهِيْ كالعُوْرْ
***
لا تُغْمِضْ عَيْنًا، وافْتَحْ بِيْ
في الشَّمْسِ نَهارًا.. جَنَّةَ حُوْرْ!
وارقُصْ- قالتْ - رَقْصَ ( التَّنْغُوْ )،
بِيْ مُلْتَحِمًا وبِلا مَحْظُوْرْ
تَرَ (مَرْيَمَ) في عَيْنِيْ تَصْحُو
و(خَدِيْجَةَ) مِنْ شَفَتَيَّ تَفُوْرْ
فالمَرأةُ مَعْدِنُكَ الأَرْقَى
وبِمَعْدِنِكَ الأَرْقَى سَتَثُوْرْ!
** ** **
(*) الموقع الإلكتروني للقلب الشاعري:
http://www.thepoeticheart.com
وتمكن مشاهدة مقتطفات من مهرجان «القلب الشاعري» على موقع «اليوتيوب»:
https://www.youtube.com/watch?v=qJ-s5wIJ5ec
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
- الرياض