كنتُ أتحدَّث في الجزء الأول من هذا المقال عن ظاهرةٍ انتشرت بصورةٍ لافتة في مشهدنا الثقافي في الفترة الأخيرة، وهي حين يعمد الأديب إلى العبث باللغة والأسلوب والتحدُّث بتُرَّهاتٍ وهرطقاتٍ لا صلة لها بكلام العقلاء، فضلاً عن الإنتاج الفني والأدبي، وذكرتُ أنَّ بعض مَنْ يُسمُّون أنفسهم (مبدعين) يعمدون إلى هذه الممارسات؛ ظنَّاً منهم أنهم يأتون بـ(الفتوحات)، وتوهُّماً أنَّ الميل إلى مثل هذا النوع من (النصوص) يفتح لهم المجال للشهرة الأدبية، ويفتح لهم أوسع الأبواب للدخول في ميادين الثقافة والإبداع، ووعدتُ أن يكون هذا الجزء خاصاً بأهم الأسباب التي أدَّت إلى انتشار هذه الظاهرة المخجلة المقيتة.
ولأنَّ الناقد جزءٌ من مشهدنا الثقافي، وركنٌ رئيسٌ من أركان العملية الإبداعية فلا شكَّ عندي أنَّ ممارساته النقدية تجاه هذا النوع من (النصوص) هي السبب الأكبر والأهمُّ في انتشارها، حيث يبدي كثيرٌ من النقَّاد إعجابه الكبير بما يراه من عبثٍ لغوي، ويفصح عن انبهاره الشديد بما يشاهده من ضعفٍ أسلوبيٍّ وسفسطةٍ دلاليةٍ وتراكيب ليس وراءها أيُّ حاصلٍ مهما فتَّشتَ وحاولت، وهذه الممارسات النقدية الواهنة تخدع القارئ قليل الخبرة، فيتأثر بهذا النقد، ويُعجَب وينبهر، ويظنُّ أنَّ هذا (الهياط) يكشف عن الأبعاد الخفية و(الماورائية) لهذا النصِّ (الاستثنائي) الذي (أبدعه) صاحبه (العبقري)، وهذا من شأنه أن يجعل هذه النصوص هي المثل الأعلى لدى المتلقي، مما يفسد ذائقته الأدبية، ويشوِّه صورة هذه الفنون الجميلة في ذهنه.
وليت تأثير هذا (الهياط) يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ذلك (العابث) الذي يظنُّ نفسه أديباً، حيث سيُعجب حينها بهذا (الهراء) الذي يثني على (هرائه)، ويفرح بالدلالات والمعاني والأفكار التي يستنبطها (الناقد) من خلال (هياطه)، فيصدِّقه ويُصدِّق نفسه، ويبعثه هذا على الإكثار من هذا (العبث)، ويتوهَّم عندها أنَّ الإبداع الأدبي والإنتاج الفني الجيد هو ذلك الذي يستهتر باللغة، ويضحك على ذقون المتلقين، ويتجه إلى نظم تراكيب عشوائية لا تدلُّ على شيء، سوى أنها مجموعةٌ من الألفاظ المرصوفة بجانب بعضها، مكونةً عباراتٍ وجملاً يربأ المجنون بنفسه أن يهذي بها!
وأظنُّ أنَّ أسباباً شتى وراء اتجاه الناقد إلى هذا النوع من النصوص، حيث يصدر منه حينها هذا (الهياط) المخجل، منها: مجاملته لصاحبه الأديب، وتبادل المنافع بينهما، حيث يضطرُّ إلى التطبيل لما يقول، والثناء على عبثه، لأنه لا يريد أن يخسر صاحبه، ومردُّ هذا كله إلى انعدام الأمانة الأدبية لديه، واتخاذه من النقد وسيلة للتسلق وتحقيق المكاسب الشخصية، واستخفافه بعقول القراء، والنظر إلى الممارسة النقدية على أنها مجرَّد كلامٍ لا يستحقُّ معه أن يكتسب بسببه عداوة من هذا الصاحب الوفي!
ومن الأسباب التي تجعل الناقد (يهايط) أمام هذه النصوص السخيفة: قلة علمه، وضعف خبرته، وعجزه عن التحليق في فضاءات النصوص الجيدة تحليقاً يكشف عن دلالاتها الخفية، ويستكنه جمالياتها البديعة؛ لذا فهو يلجأ إلى هذا النوع من النصوص التي يعرف في قرارة نفسه أنها ليست سوى ظلمات بعضها فوق بعض، لكنه يجد فيها مجالاً أوسع (للهياط) الذي لن يحاسبه عليه أحد؛ لأنه يقرأ (عبثاً)، فلا مانع أن يكون نقده كذلك، لهذا يضطرُّ إلى امتطاء هذه الترهات ليشبع رغبته في النقد، وليمارس هوايته التي تشوِّه الوجه الجميل لهذا الفنِّ الإبداعي.
وقد يقود الجهلُ وضعفُ الخبرة والعجزُ عن الإبداع الأديب َالناقدَ معاً إلى توهُّم أنَّ النصوص الحديثة ينبغي أن تتجه إلى هذا (العبث) اللفظي و(الاستخفاف) في النظم والتركيب، وأنَّ عهد الوضوح في المعاني والدلالات قد ولَّى، وأنك إذا أردت (معاصرة) الأدب والنقد فلا بُدَّ أن تكتب بهذه اللغة وذلك الأسلوب، فهذا عصر الغموض (العابث)، و(الهلوسة) المفتوحة على كلِّ اتجاه، ولعلَّ هذا من نتائج التأثر بنظريات بعض مناهج النقد الغربي الحديث التي تشجِّع على هذا النوع من (العبث) في اللغة و(العربدة) في الإسناد، حيث يدعو بعضها إلى وجوب (الإبهار) في النص الأدبي و(الإدهاش) في ألفاظه، وأن تكون مهمة المبدع الأولى هي لفت نظر المتلقي إلى ما يكتب، حتى لو كان ذلك على حساب الدلالة، بل حتى لو لم يكن هناك دلالة أصلاً! حيث سيتولى الناقد هذه المهمة من خلال (الهياط) الذي يتقنه.
وأجزم أنه لو لم تجد مثلُ هذه النصوص - التي (يهلوس) أصحابها حين إنتاجها - وسائلَ نشرٍ تتلقَّفها وتنشرها لم تظهر ولم تكثر بهذه الصورة؛ لهذا فإن جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على عاتق هذه الوسائل، سواء أكانت مقروءة أم مكتوبة أم مسموعة، حيث تجد رؤساء تحريرها (يهللون) أمامها ويتسابقون على نشرها؛ رغبةً منهم في إرضاء أذواق القرَّاء المخدوعين، وتوهُّماً أنَّ هذه (الهرطقات) المرصوفة هي الكتابة الأدبية الحديثة! بل إنَّ بعضهم يعتقد أنَّ نشر هذه (الهلوسات) يمنح صحيفته أو صفحته نوعاً من الهيبة والوقار؛ لأنَّ مَن يكتب فيها هم (النخبة) الذين لا يمكن لأحدٍ أن يفهم كلامهم سوى (النخبة) أمثالهم، وتنطلي الحيلة على القارئ المسكين الذي يقف منبهراً أمام هذه (الهلوسات) التي ينتجها مَن يُسمِّي نفسه (مبدعاً)، ومندهشاً تجاه هذا (الهياط) الذي يصدر ممن يظن أنه (ناقد)، فإمَّا أن يعود خائباً متَّهماً نفسه بقلة الخبرة وضعف الإمكانات الثقافية التي تتيح له فهم هذا الإنتاج الاستثنائي، أو يضحك على نفسه فيزعم أنه فهم هذه العبقريات كي لا يُتهم بعدم الفهم وقلة الممارسة.
وتتعاظم المشكلة حين يظنُّ المتلقي أنَّ هذه (السخافات) المتزاحمة هي الأدب الحقيقي، ويتحول الظنُّ إلى يقينٍ حين يرى النقَّاد (يهايطون) بحضرتها والوسائل (تتراقص) لأجلها، فتُحدِّثه نفسه (الأمَّارة بالسوء) بالدخول إلى عالم الإبداع والأدب ما دامت صورته بهذا الشكل، ولماذا لا يكتب نصاً شعرياً أو يخط قصة أدبية أو يعكف على إبداع رواية من تلك الروايات (العبقرية) التي تغص بها المكتبات وتمتلئ بها معارض الكتب، لماذا لا ينتج أي إنتاج أدبي ما دام الإنتاج الأدبي عبارةٌ عن عبثٍ وسخافاتٍ و(هلوسات) سيقف أمامها النقَّاد (مهايطين)، والإعلام (مطبلاً) والقراء (متراقصين)! وهذا ما يُفسِّر وجود تلك الأرتال من الكتب التي تصدر لدينا سنوياً، ويدَّعي أصحابها أنها تضم بين دفتيها (أدباً) و(ثقافة) و(فكراً) فيه من العمق والتميز والجودة ما يستحق معه مؤلفها (المتفرد) أن تنتظره (القطعان) في معارض الكتب للحصول على توقيعه الثمين في كل عام!
- الرياض
omar1401@gmail.com