حسين سرحان - 151 صفحة من القطع الكبير
لا غرابة في غرابة طائر شاعرنا الراحل إن غرابته تصور فلسفي.. وأن غرابته نقطة تواجد تلمسها بعقلك قبل ناظريك.. ومع هذا لا بد أن نشخص سوياً بأبصارنا نحو السماء بحثاً عن ذلك الطائر غير المألوف لما فيه من غرابة مدهشة:
بداية قريب شاعرنا بعيد.. لماذا؟ هل أنه خيال حب سارح وسابح في الأبعاد ربما:
ظلت ألقاك ليلتين وأخرى
فمضت ليلة ومرت ليال
والثواني كأنهن شهور
والليالي تربي على الأحوال
وقف الدهر موقف الطود قدا
مي وأمسيت قاب قوسٍ حيالي
أي قرب؟ لكنه أبعد البعد
وأنأى من النجوم العوالي
لو تقربت باليدين محياك
لأقربت منك غير مبال
هذا سبر بعده ذراعا تلك المساحة الشاسعة التي تفصله عن عروس خياله الرحب..
أقول.. أقوال.. محطة جديدة تأخذنا بقولها كي نقول:
(سوفوكليس) اين المال أين هو الندى؟
وأين طيور غاب عنها سنيمها
وحتام نبقى في عذاب معذب؟
نبارحها حيناً ويبقى بريحها!
أفي الرأي أن يحيا الجواد على الصدى؟
وتستقبل الساحات باللؤم سومها؟
أكثر من تساؤل.. وأكثر من علامات استفهام لما يدعها عالقة في الذهن
يضن بأموال له ذو مكارم
فكيف وقد انضى السهام شحيحها؟!
وأني وإن ضاق المجال لعالم
وكان سواء حسنها وقبيحها!
لأعلم أن الحظ لا يدرك الفتى
إذا ضاق منه في الحياة فسيحها
بهذه القدرة الذكية خبر الحياة تجربة صاغها عن يقين أن لا شيء له معيار.. كل شيء مختل لا تضبطه موازين ولا اتزان..
(مزنة) ابنته الربيعية العمر،كان له نجوى معها حزينة وقد ودعته إلى عالمها الآخر:
أراك، أراكِ في نومي وصحوي
وفي بُعد وفي قرب قريب
أراك على النمارق والحشايا
أراكِ عليَّ آخذة دروبي
رأها كخير دافق باسم المحيا، رآها على صدى صوت مجيب ومستجيب رآها مع الهواء، مع الأماني.. والأخيلة والأحلام:
عليك على ضريحك كل مزن
تهب به الروح مع الهبوب
نعم.. كل مزن يهطل بالغيث كي يروي قبر مزنة: وفي وداع آخر كانت لغته جارفة كالموج..
يا رب ليل سرقت الفجر من يده
بكرت للرد من تبكير العصافير
هذي تشم، وهذي تشتهي مقة
وتلك تملأ منك الطرفة بالنور
وتلك محمرة عن خد غانية
وتلك رانية عن طرف مسرور
وينتهي عند هذا المقطع الحزين:
أوراق روضك جفت في الغصون وقد
غادرته في سفار غير محبور
قم أيها الروح.. لكن مُتَّ وا اسفا
والموت يدنف بالشوس المغاوير
لا شيء من ذاك يحيى الميت من جدث
أو يقدح الزند من صفوان لا يوري
تلك هي الحقيقة:
بعض محطات شاعرنا تجاوزناها رغم جمالياتها لعامل المساحة المتاحة.. نتوقف معا أمام لافتة نقيضين القبح والحسن:
أباح للسامعين حسن نعمته
ما باله يمنع الرائين مرآه؟
إن كان ذاك لقبح فهو محتمل
وإن يكن لجمال فهو تياه
والقبح والحسن بعد ليس له
مدى يحدد مبناه ومعناه
فرب قبح وإن تقذى العيون له
حينا فإن سواد القلب يرعاه
ورب حسن رأيناه أخا صلف
عجباً تكاد تعاف العين لقياه
يريد شاعرنا أن يقول: إن الحسن جمال روح.. جمال الجسد لا يكفي، وإن القبح دمامة سلوك. لا سواد بشرة:
وعن الليل له رؤية:
يقولون هذا الليل يسودُّ لونه
وهل في اليالي أبيض اللون ناصع؟
ألوف من الأقمار لا تذهب الدجى
إذا وقعت منه علينا الوقائع
فلا الصبح مرجو، وإن حان حينه
ولا طالع من كوكب سنطالع
ليالٍ على الدنيا توالٍ.. كأنها
رماح عوال، أو سيوف قواطع
فلا تنخدع لو أشرقت فهي حندس
ولو عمرت بالقوم فهي بلاقع
بهذه الجزالة والأصالة الشعرية واللغوية أمكن له أن يغرز بين جمال الصورة وجمال السيرة.. بين إشراقة الصبح وبشاعة القبح.
وعن بغداد ما قبل الغزو والغزاة والكوارث والمأساة يتحدث شاعرنا الأصيل حسين سرحان:
من لي ببغداد؟ أو مالي ببغداد؟
يشدو بها الطير أو يحدو بها الحادي
دار تصفى رقيقات الفنون بها
كما تصفى كؤوس الراع كالجادي
وفيها النفيسان من جد ومن هزل
وذو العوابق من ندٍّ ومن نادي
ويمضي في توصيفه وفي توظيفه للمفردات البليغة:
كأن دجلتها والنخل يكلؤها
غمامة فوق أغوار وأنجاد
يا اخت هارون والمأمون كم غرضت
نفس إليك على تطوال آماد
والمرء في هذه الدنيا أخو محن
لا حاضر وائل منها ولا بادي
إذا قضى الدهر يوماً أن يصاولنا
فإن الدهر.. ضراب بأسداس
الدهر لم يضرب. الضاربون هم المحاربون الألداء.. المضاربون بأطماعهم..
(الماء والنار لا يجتمعان تنطفئ النار ويبقى الماء حتى لو تشربته الأرض..
رجلاك في الماء أو رجلاي في النار
كلاهما خبر يسري به الساري
لا تخدعنك عن دنياك بهجتها
فإنما أنت ثاو بين أطمار
يا ذا الملايين باتت في خزائنها
ما ذاق منها رفاهاً عشر معشار
الموت موتك، والأعراض تتركها
يجري بها قدر في حكمه جار
بهذه النظرة التأملية يأخذنا شاعرنا إلى نقطة الفلسفة الحياتية.. بشكل وعظي عقلاني:
كنا كذاك مدى حين وغيّرنا
ما غير الناس من نعمى وإضرار
فلا الندامى حلول في كؤوسهمو
حتى ولا عبرة من بعد بشار
والصوت في العين لا في الأذن تسمعه
لا الموصلي، ولا تطريب موزار
فخذ بدنياك روم الحظ واعل به
أو لا.. فعد حجرا من بين أحجار
يريد أن يذكرنا أن الحياة مزيج متداخلة من جد وهذل.. من اختيار في بعض حالاته واختبار في أخرى لا يخضع لمقاييس الرغبة.. ولا يقرب منه الحب والكره.. إنه زورق تتموج به الأمواج وتأخذه إلى حيث تشاء..
يبحث راحلنا حسين سرحان عن السر.. وما أدراك ما السر:
ترى ما هو السر بين الزهور
وبين النسيم إذا ما سرى؟
أطاف بنرجسه في البكور
فأسكرها برحيق الكرى
وفتق أكمامها في الظلام
وأنزع في طرفها كأس نور
فهذا أحمرار وذاك اصفرار
وهذاك ينهل من أزرق
تحولات ما زالت في كتمان السر لا يعلمها إلا خالق الكون ومدبره..
والطائر الغريب (عنوان الديوان ودليله وربما القيم عليه بعد أن اختاره يقول عن طائره الغريب:
صدح الطير لحظة فوق أغصان
لدان وقال قولا عجيبا
قال: يا ليتني تلبثت في الرو
ض وحولته فضاء رحيبا
طائره يتكلم ويتمنى ويتغنى:
أنا في ذلك المقام الذي أحيا
به طائراً غريباً مريباً
حركاتي مرموقة تبعث الشبهة
حولي وتستثير الرقيبا
رجع صداه الحلو يتحول إلى شيء هزيل وكئيب.. أكثر من هذا:
وإذا طفت حول غصن أحييه
رمى زهوة وأبدى الشحوبا
طائرشاعرنا تحول إلى نحس.. وشؤم.. المرئيات في عينيه رمادية.. بل هو رمادي في نظرة الأشياء كل الأشياء لسبب لا نعرفه:
أخفقت في الطلوع شمس حياتي
ليتها آذنت إذاً أن تغيبا
بل ليتها لم تطلع كي يتنفس الوجود هواءه النقي.. طائر شاعرنا أغرب.. وأشأم من غراب..
تداعى الجسم وراح يصف لنا دعواه:
تداعى الجسم وانحلت قواه
وضاق اليوم من عمري مداه
كأني سوف أبصر عن قريب
يداً للموت لا شلت يداه
دعاني للغناء فخف روح
حثيث الخطو لبى من دعاه
كأنه بهذه البكائية أمام مشهد الموت قاب قوسين منه أو أدنى!
وقال القائلون: أمات حقاً
لهمّ والحزن جفت مقلتاه
وما للموت شيء من عزاء
وقد خلت البسيطة من حداه
مقاطع مجتزأة من تداعي الجسم.. أخيراً مع شاعرنا الراحل حسين سرحان في ديوانه (الطائر الغريب) ومع آخر مقطوعة من شعره الأصيل والجميل تحت عنوان (سخرية)..
قل لمن شاء في الحياة فخارا
أنت ليل فكيف ترجو النهارا
كن غنيا فقد ولدت فقيرا
لا شعاراً تزهو به أو دثارا
أو عظيما.. فقد أتيت حقيرا
أو عزيزاً فقد شبعت صغاراً
ويمضي قائلاً في سخريته:
شئت فخراً فكيف يا ابن اللواتي
لسن يهجعن منك إلأ غرار
يتفكهن يوم جئت صغاراً
ويولولن حين مت كبارا
انت منهن لن تضيء بنور
في حياة ولست توقد نارا
فاترك الفخر - ليس ينهق في الحي
حمار حتى يثيــــر حماراً
هكذا جاءت النهاية على غير اختيار.. رغم أن الحمار مخلوق أليف ومطيع وصابر على أثقال الحمل والسياط التي تلهب ظهره.
إنه أكثر جلدا وأداء لوظيفته من بني البشر.
- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338