سبب ركود المفاهيم
إن ركود المفاهيم يُرجِئه العلي، بشكل أساسي ليقينية اللغة، هذا السبب الذي يتمظهر بعدة أشكال هي: عدم تحول المفردة إلى مفهوم، وتجاهل الأسباب، وسيطرة التقاليد، وتداخل المفاهيم والقيم، وأخيرًا: تناقض القيم.
يقينية اللغة، هي الوجه الآخر لموت المجتمع، فالمجتمع حياته، بتجاربه الإنسانية، الفنية والفكرية والروحية والعاطفية والوجدانية، فعندما يصف العلي لغتنا بأنها يقينية، فكأنما يعبّر بأسلوبٍ لَبِقٍ أن مجتمعنا ميت، فاللغة مرآة المجتمع، فثباتها وركودها يعكس ركود وثبات المجتمع.
العلي وقراءة المفهوم:
لكل شخص منا أسلوبه في النظر للأشياء ومقاربتها، وانطلاقًا من ذلك، وطريقة النظر للأشياء، هي التي تحدد المخرجات المعرفة، فلذا رأيت أن أستعرض لمحات من أسلوب العلي في قراءة المفاهيم، لما لها من بعد منهجي، لا أدعي أني قبضت على طريفة العلي كاملة ف قراءته للمفاهيم، لكن هي لمحات أتت لي أثناء قراءتي للكتاب، رأيت فيها ما ينبغي استثماره، وهذه اللمحات كالتالي:
- جدل المجتمع والمعرفة:
الفكر، وإن كان يبدو ظاهرة فردية، يقوم عليها أفراد منعزلون عن مجتمعهم بين جدران الجامعة أو غرف التأمل، يقومون باشتغالاتهم في أبراجهم العاجية، لكنّه - أي الفكر - لا يعرى عن ارتباطه بالمجتمع، هذا الارتباط أو بشكل أدق: الارتباطات لها عدة تجليات، تأثيرًا وتأثّرًا، فعلاً وانفعالاً، بين أطراف الجدلية، فالمجتمع يؤثّر في المعرفة، وكذا المعرفة تؤثّر وتخلق في المجتمع، لكن هنا في هذه المقاربة السوسيو- معرفية، يُراد تبيان التأثير من جانب واحد، وهو دور المجتمع في صياغة المعرفة وبنائها، فالبحث عن أصول المعرفة، يجعلنا نفهم ونعرف المعرفة بشكل أفضل، ولعل هذا ما نحتاجه في لحظتنا التاريخية، أن نعي د طرح سؤال المعرفة، ونضع تصوراتنا عنها وعن كيفية اشتغالها، وعن أهدافها تحت النقد، وكتاب نمو المفاهيم، ليس بعيدًا عن ذلك، فقد بين تأثير المجتمع في المعرفة على مستويين، المستوى الظاهري للمعرفة أي موضوع المعرفة، والمستوى الداخلي أو الباطني للمعرفة أي بنية المعرفة.
أولاً، تأثير المجتمع على موضوع المعرفة:
ثقافة الإنسان ولغته، بمثابة منظار أو عين، يبصر الإنسان بها الأشياء من حوله، فهي التي تحدد ما يمكن أن يرى وما لا يمكن، وهي تحدد درجة وضوح الأشياء، وهذا المنظار أو العين يفعل فعله في المعرفة، فموضوعات المعرفة تتحدد من خلال المنظومة القيمية للمجتمع كما يرى ماكس فيبر، وإذا أردنا استعمال تعبيرات معاصرة، لقلنا: المنظومة القيمية هي التي تحدد المفكّر فيه واللامفكر فيه، والمستحيل التفكير فيه في مجتمع ما.
إلى هنا اتضح دور الثقافة في تحديد أفق موضوعات المعرفة، لكن ما يجعل المعرفة تتخير هذا الموضوع بدلاً عن ذاك هو: وضع المجتمع وحاجاته وهمومه، وكأنموذج، يبين لنا العلي كيف طرحت مسألة الجبر، في توظيف سياسي، لتكريس السلطة في إطار حديثه عن الشك في ثقافتنا:»إن ثنائية الجبر والاختيار هي أول مسألة خاضها الفكر العربي الإسلامي نحو اتجاه يحده الشك.. فقد أشاع الحكم الأموي عقيدة الجبرية لإقناع الناس بأن الخير والشر من الله وأن تقسيم الأرزاق، وظلم الناس، وسفك دمائهم، كل ذلك، إنما هو بقضاء الله وقدره.. وعليه، كل مَنْ يَقُومُ بهذه المظاهر من الحكام إنما هو بإرادة الله، وإن الإنسان مجبر على تلك الأفعال، أي أن الحاكم مجبر.. وقد درس هذه الفكرة في العراق زياد بن أبيه (ت 53 هـ) وهذا يعني أنه أشاعها في النصف الثاني من القرن الأول....».
ثانيًا، تأثير المجتمع على البنية الداخلية للمعرفة:
وكما تؤثّر الثقافة على اختيار المعرفة للموضوعات، كذلك تؤثر الثقافة في تصورنا عن المعرفة ذاتها وعن الحقيقة، فالحقيقة ما هي؟ وأين هي؟ وكيف الوصول إليها؟، هذه الأسئلة لها في كل حضارة، وكل مجتمع إجابة مختلفة، وقد ألمح العلي إلى هذه المسألة، وأبرق فيها، فعدد البنى المعرفية المختلفة، يقول مذيلاً العنوان «بنية المعرفة»:»هذا مصطلح آخر، يعني أن البنية المعرفية في كل مجتمع، تقوم على أساس التصورات التالية:
1- الثنائية: والمعرفة في هذا التصور تكون إما صحيحة أو خاطئة.
2- التعددية: وهو تصور يعتقد بأنه يمكن تعدد المعرفة في مجال معين، ويمكن أن تكون وجهات النظر المختلفة على صواب، وهذا يفضي إلى نفي الثنائية اليقينية في المعرفة.
1- النسبية: وتعني التخلي عن (الإطلاق)، وادعاء امتلاك المعرفة.
2- الالتزام: وفي هذا التصور ترتقي المعرفة إلى مرتبة القيمة التي يجب الالتزام بها.
ونحن نعرف أننا من أصحاب التصور الأول، وهو القائم على البنية المعرفية الثنائية»، وما آسف له، أن الكاتب ذكر هذه المسألة وهو في عجالة من أمره، لكونه يتناولها بوصفها جزئية من موضوعه، وإلا فإن قضية البنى المعرفية، لابد من دراستها تفصيليًا، وتبيان السيرورات التاريخية التي أفضت إلى هذه البنى، لكي نعرف هل بنية معرفتنا مناسبة للحظتنا التاريخية أم لا؟
نمو المفاهيم:
التاريخية، عندما نحاول استكشاف هذا المصطلح في خارطة العلي المفاهيمية، نراه يتجلى بوصفه همًا معرفيًا أكثر مما هو فكرة، أعبّر بالهم، لكثافة حضوره، بصور وتشكيلات مختلفة، ولأن العلي يعد التاريخية شرطًا لنمو المعرفة، واللاتاريخية عائقًا لنموها.
ومن ضمن صور التاريخية، هي مقولة «نمو المفاهيم»، التي احتلت عنوان الكتاب والورقة الأولى منه، وأيضًا نرى العلي في شتى مواضع الكتاب يؤكّد على أن المفاهيم متحولة ومتغيرة، هذه المقولة تعني قراءة المفهوم في سياق تطوره التاريخي، وأن المفهوم عبارة عن حدث، نتيجة لتراكمات تاريخية، هذه التراكمات سببها التجارب البشرية الجديدة والحراك الاجتماعي والتثاقف مع المجتمعات والحضارات الأخرى، هذا التعريف ، يريد أن يبين أن المفهوم في صميم كينونته يعبر عن الصيرورة، ففي تعريفه للمفهوم «تحول المفردة اللغوية إلى تاريخية»، تأتي الكلمة الأولى «تحوّل»، لتؤكد لنا البعد الزمني للمفهوم.
تعدد المرجعيات الفكرية والحضارية
العلي حينما يتناول مفهومًا، فإنه يحاول أن يجعله يستوعب أقصى قدر ممكن من التجارب الإنسانية، وذلك مما يعطي غنًى وجمالية في قراءته للمفاهيم، فعندما يقرأ مفهوميْ الشك واليقين على سبيل المثال، يتناولهما من مرجعية شعرية ومرجعية فلسفية، وأيضًا نرى تعدد المرجعيات على المستوى الحضاري، حينما يقارب الموضوع من خلال تراث الحضارة العربية الإسلامية، وتراث الحضارة الغربية
محمد سعيد الفرحان - كلية العلوم الطبية- جامعة الملك فيصل