(1)
بينما تحاصرك أخبار الشرق الدموي بطوعِ رغبتك أو غصباً عنك، ولا شيء.. لا خبر عن فعل أو موقف على أرض الواقع يفضي إلى إنهاء اليأس أو الحدّ قليلاً من هذا التسارع باتّجاه ما تحت الهاويات، ها أنت تظلُّ على عنادك في المتابعة كأنّ شيئاً سوف يحدث، ويزعجكَ وأنت في حلفٍ مع الياسِ أنّ هذا العناد بحدّ ذاته يُفسّر نفسياً على أنّه أملٌ؛ بينما تطلّ عليك كلّ الأخبار التي تؤكّد غياب الحداثة عن الإنسان العربي وإعلان سياسيّه ومثقّفيه عن عجزٍ تامٍ عبر تطبيقات إخباريّة في موبايلك، ولا تمدّك بشيء من الصبر، فهذا المذبحُ العربيُّ لا يشغلُ أكثر أبنائه الغارقين في الدم بطريقة أو أخرى، لتكاد كلّ عنقٍ شرقيّة تحمل وزر دمٍ مسفوحٍ هنا أو هناك بطريقة أو بأخرى؛ بينما أنت على هذه الحالة من الحصار تلعن الوعي الذي أنت عليه، يأخذك الوعي نفسه أن تحاكمه: من أنتَ أيّها الوعي؟ وأيّهما المسؤول عن هذا الوجع النفسي؟ أنتَ أم هذا المرض الذي نكره، وثمّة أكثريّة مسلوبة من الحريّة تريد أن تزوّره إلى حالة طبيعيّة، وأصحاب وعي مزوّر على قلّتهم إلاّ أنّهم كثرٌ (على قدر تنطيطهم في القنوات والمنابر) خرجوا علينا بتوصيف (أقرب إلى مزحة ثقيلة الدم) حين يصفون الواقع على أنّه «مرحلة في الطريق إلى الحداثة» في الطريق إلى الحريّة الغائبة.
(2)
اطّلعتُ - غصباً عنّي- فلم يكن في اهتمامي أن اطّلع على فعاليات معرض الكتاب بجدّة، فما كنت أو لا أظنّ أحد يتوقّع فعاليات تخرج عن ذاك الصندوق المعلّب من الموضوعات، لكنّ البرنامج اقتحم موبايلي عبر تطبيق (الواتس أب)؛ وحين تقلّب موضوعات البرنامج تشكّ في نفسك: هل أنت موهوم أنّك في هذا الواقع؟ أم أنّ وضعي البرنامج في غياب؟
أما أصابهم مللٌ من موضوعات تقديريّة ومكرورات يمارسها الشخوص أنفسهم وعلى النصوص نفسها: (موضوع في الرواد وهو يؤكّد بلوى تقديس الشخوص والاستمرار فيها لدى جميع التيارات إن كان هناك اختلاف بين عقليات أصحابها، موضوعات في نقد الرواية، الشعر، الأدب، وهكذا....)
أين هو الواقع ومشاكله وجحيمه ودمائه وأمواله المهدورة ومدنه المدمّرة ودور عباداته المتفجّرة وأبنائه المنتحرين كأن واضعي البرنامج وفعالياته قد تعمّدوا وضع برنامج مغاير عن واقعنا ومحيطنا؛ (يعني: من شدّة موضوعيتنا وواقعيتنا أحبّوا أن يخفّفوا علينا الأجواء «شويّ» ويأخذونا إلى مكان ترفيهي بعيداً عنّا) لكنّ ثقل الدم في هكذا مواضيع أنّها بعيداً عن الواقع لكنّها في الوقت عينه لا تلمس حدود الخيال.
موضوعات لا تمسّ الواقع، وتؤكّد مراراً تيهنا ورفضنا القاطع لمناقشة قضايانا ومشكلاتنا وتحدياتنا: (السعودية وحرب اليمن، السعودية والحرب الأهلية في سوريا، مخاطر العمليات الانتحاريّة الإرهابيّة، حُمّى الطائفيّة، الدين والعلم، الخطاب الديني، الربيع العربي، لماذا يفشل الإصلاح كلّ مرّة، الابتعاث والمُحرم، الابتعاث وغياب اللغة الإنجليزية في مدارسنا الابتدائيّة، الخصوصية والتعايش، تباطؤ الاقتصاد العالمي، تراجع أسعار النفط واقتصادنا، قوننة الأحكام، موضوعات في العلوم) كلّ هذه الموضوعات لا تعني شيئاً للجنة التي وضعت البرنامج، وهمّها محصور في مشاركين ومستمعين أيضاً وموضوعات في تبجيل بعض رواد (لا تعلم على ماذا وقعت ريادتهم ونحن في مآلات تاريخيّة مرعبة) وبعض قراءات لروايات صارت جزءاً من المعرض إن كان في الرياض أو في جدّة.
(3)
عامٌ بعد أخرى، ومعرض كتاب بعد آخر، يتأكّد أنّ مفهومنا للثقافة محصورٌ في الآداب ومشتقّاتها، وغائبٌ تماماً عن السياسة والعلوم الماديّة وقوننة الحقوق لطالما برامجنا وكتاباتنا وتصوّراتنا قائمة ومحصورة فقط في الآداب دون العلوم، في الخيال دون السياسة، وهذا الغيابُ يُبقي المثقّف في النطاق الذي ينتقده في رجال الدين والتقلديين والمحافظين بحيث تجد الفريقين أو الأفرقاء لا يختلفون في غيابهم التام عن مفاهيم ونطاقات سياسيّة وعلميّة وقانونيّة، فلا تقوم حداثة ماديّة ضمن متطلبات العصر دون الاستناد إلى هذه النطاقات الماديّة القادرة على إنتاج حياةٍ قابلة للحياة ضمن قوانين الأسباب والنتائج؛ بينما (ربعنا) يحصرون معرض الكتاب مثلاً: على موضوعات أدبيّة مكرورة، وبات المرء المعتزل لكثرة ما سمع (الربع) يكرّرون الكلام نفسه يتبرّأ من الآداب ومشتقاتها والأصل أنّهم المسؤولون وليس الروايات أو الشعر، لكنّ الإصرار على تفسير الكتاب على أنّه: رواية، ديوان، نقد أدبي، وتعمية الكتاب على أنّه مثلاً: «أصل الأنواع، رأسمال المال، ثروة الأمم» وغيرهم من الكتب العلميّة والاقتصاديّة والتي أثّرت في الحضارة الماديّة اليوم وما زالت تقود التقدّم، إنّ هذا الإصرار تحديداً هو الذي يؤكّد غياب شريحة المثقّفين عن الوعي الماديّ العلمي، واسترخاصهم الثقافة على ضوء قراءات أدبيّة، وإن كانت تقترب من الواقع ضمن أساليبها السرديّة أو الشعريّة لكنّها تبقى مبتورة في غياب تام لمناقشة موضوعات علميّة وسياسيّة واقتصاديّة.
(4)
إذا حضرت السياسة والاقتصاد والعلوم الماديّة فإنّ الواقع يكون حاضراً في حضورهم وشغلهم الشاغل، وصحيح أنّك لا تضمّن حلّاً لتعقيدات الواقع، وذلك ليس لعيب في السياسة والاقتصاد والعلوم إنّما في خطأ فكرة «خلاص الواقع أو الطوبى الأرضيّة»، لكنّك إن غبتَ عن السياسة والاقتصاد والعلم وغيّبتهم فأنت في واقع الأمر غائب عن الواقع ومغيّب كليّاً، مهما زدتَ من حضورك وظهورك، فهذان الحضور والظهور لا يصلان إلى مستوى الظلّ من حيث المنفعة، وبالكاد يلحقهما الغيابُ في سلّة العدم.
(5)
قرابة عشرة سنوات مرّت بين معرضي جدّة، والشخوص والموضوعات لم تتغيّر بعد، وما زالت على عهدها بعيدة عن متطلبات واقعنا الداخلي وعلاقاتنا الخارجية، وغائبة من أيّ علوم ماديّة واقتصاديّة وسياسيّة مرتبطة بالواقع ومشكلاته وحلوله؛ فماذا يُقال؟
(أبدعت) اللجنة المسؤولة عن وضع البرنامج، (أبدعت) في الغياب عن الواقع!!!
• استمرّوا في غيابكم أيّها الحاضرون.
- جدة