تتدرج أحداث هذه الرواية بشكل متوازن وغير متكلف
الراوي البطل في رواية «ولد المقصوص» لساير المسباح يتماهى في وصفياته الفريدة، ويذكي نار الشوق إلى تتبع منعرجات هذا الخطاب الإنساني الفريد حينما يضع تفاصيل المعاناة بين يدي القارئ، فلا يجد بدا من متابعتها والتعلق بها، وسبر أغوار هذه الحكاية الفريدة من نوعها.
ربما لأول مرة يتم طرق هذه الفكرة التي تناولها الروائي المسباح بل تفنن في صياغتها، وإظهارها بهذا الشكل اللافت، إذ إن معاناة الإنسان في موقف «القصاص» وتبعاته ومنعطفات تحولاته في المستقبل، وليس هنا في وارد نقد لهذا الحد الشرعي إنما هو إضاءات على ما قد تتفاعل فيه الصور الإنسانية على نحو يستفيد منه القارئ، ليخرج بتجربة ما عن تحولات هؤلاء الذين يمرون بمثل هذه التجربة.
عنوان الرواية «ولد المقصوص» جاء من الفكرة الرئيسية للنص حيث عمد الكاتب إلى أن يستجلي حقيقة هذا النعت الذي الصق بطفل صغير نفذ بأبيه حكم القصاص بحد السيف في حكم شرعي واضح ولا لبس فيه، نظراً لأنه قتل رجلاً آخر، ليتفاعل هذا العنوان مع ما سواه من مفردات برع المسباح في توظيفها بشكل متميز، ولاسيما حينما وصف مراحل حياة الطفل «فهد عبد الكريم» الذي تجلت معاناته بفقد والده، ومن ثم تتدرج الأحداث بشكل سلس ومتوازن، ليوظف هذا الخطاب الإنساني بدون قسوة أو تجريح أو تظاهر بالموقف أو تزييف للحقائق، إنما هو شرح بسيط ومباشر لحجم هذه المأساة التي يعيشها بطل هذه الحكاية، ومن هم على شاكلته ممن فقدوا معيلهم.
تميزت هذه الرواية بالوصف المتقن، إذ عمد الكاتب إلى أن يُفَصِّلَ في الكثير من المواقف، ويرسم المشاهد الضرورية لحياة هذا الطفل بشكل متقن، ويبتعد عن المغالاة أو التشهير بأي شخصية سواء كانت محورية أو ثانوية.. فنصبح أمام هذا العمل مشدودين إلى النص وحكاية الإنسان البسيط بتوتر جميل، وقلق مبرر، وبناء فني متكامل.
سبر المسباح على لسان الراوي البطل الكثير من القصص والمواقف في هذه الحكاية لإنسان بات يعاني من الفقد، بل إنه استطاع أن يوظف المكان كحاضن مهم لهذه الأحداث بواقعية مجردة، لتشهد أحداثها على الأرض الكثير من المواقف التي كان يسردها بشكل متقن عن مراحل حياة الطفل فهد منذ أن ولج المدرسة الابتدائية وحتى كدحه في الحياة رجلا كاملا مرورا بالمراحل الحياتية والعمرية المختلفة، فكان أبرز ما استدعاه الكاتب في هذا النص المواقف الأليمة التي تُعَاضِدُ فكرته وألمه حينما فقد أباه في ظهر الجمعة يوم القصاص منه.
أما الزمان في هذه الرواية فإن المسباح قد وظفه بشكل لافت ومحدد وبتواريخ وشواهد قريبة من الحقيقة رغم أنه نفاها في مدخل العمل حينما أشار إلى أن كل ما ورد فيها متخيل، لكنه اعتمد على المجاورة في نقل المشاهد والطرف والحكايات، ولا سيما الأحداث السياسية والرياضية التي وردت في مناسبة هذا السرد، أما المواقف فكانت غاية في الوضوح، إذ لم يزيف البطل، أو يدعي مسيرة حياته وتواضع إمكاناته، وتصرفاته التي تشي بطفل ويافع يعاني الفقد ولا يجد له سنداً.
في منتصف الرواية يحول الكاتب المسباح بوصلة السرد نحو تفاصيل أعم وأوفى؛ على نحو انخراطه في العمل اليومي بعد حياته المعاندة والشقية، وربما يأتي أقساها حينما يكتشف الراوي البطل في المرحلة الثانوية أن مجاوره وزميله في الصف شاب يتيم فقد والده بسبب مشاجرة دفع المتسبب بقتله روحه ثمناً لهذا التهور، فقد ثبت له وبطريقة لا تخلو من مفاجأة درامية أن هذا اليتيم ابن القتيل الذي بسببه نفذ حكم القاص بوالد فهد.. ومع ذلك استطاع الشابان أن يكملا صداقتهما وكأنما شيئاً لم يحدث في بادرة فريدة تعكس أن معاناتهما متقاربة.. من قُتِلَ ومن دفع حياته ثم لتصرف طائش.
في الثلث الأخير من الرواية يستفيض الراوي في شرح الكثير من الحكايات والمواقف ويصور بطريقة عفوية لا تخلو من الوضوح والمباشرة، ليتم بذلك تفاصيل هذه الرحلة الإنسانية بشكل فريد، يندر أن نجد له مثيلا في الكتابات المعاصرة والحديثة، إذ إن هذا المشروع الإنساني أطر بسلوك عادي، وتصرف شخصي، وحوار متزن، ومشاهد لا تقبل مزيدا من التأويل.
لغة هذه الرواية جاءت مباشرة، وخالية من الصنعة أو التزيد، فقد اعتمد الكاتب على سرد التفاصيل بشكل لا يقبل الجدل، فكانت المشاهد تنهال على الذائقة بشكل متقن ومتناسق، حتى إنك كقارئ تتصور أنك تمسك بيد هذا الروائي وتسير معه جنباً إلى جنب ليحدثك عن كل صغيرة وكبيرة في هذا السيرة الإنسانية المحملة بالفواجع والآلام، ومن ثم تراكمات التجارب التي خاضها، فكانت حرية بأن تظهر إلى القارئ بشكل متميز وفاتن قل أن تجد له مثيلا.
فالرواية في زعمي - والزعم هنا ليس كذبا - إنها جديرة بالمتابعة والاهتمام، وقابلة إلى أن تتحول إلى عمل فني درامي لاكتمال عناصرها الفنية، وحشد مشاهدها التصويرية، وتسلسل أحداثها ومنطقية تناولها حينما سعى ساير المسباح إلى لفت الانتباه إلى فئة من الناس تستحق المتابعة والتفاعل.
** ** **
إشارة:
- ولد المقصوص (رواية)
- ساير المسباح
- دار المفردات - الرياض - 2014م
- تقع الرواية في نحو(220صفحة) من القطع العادي