حين نوازن بين عناصر تركيب الجملة نجد فرقًا بينها، فمنها ما له وظيفة نحوية تكون العلامة قرينة من قرائن وظيفته، قد تكون لازمة وقد لا تكون لازمة، وإنما المعوّل على الدلالة الوظيفية في التركيب بغض الطرف عن العلامة، ومن عناصر التركيب ما له صفة تختلف عن الوظيفة الإعرابية، وأوضح أمثلة ذلك (المضاف)، فقولنا مضاف هو وصف للفظ، أما وظيفة هذا المضاف فحسب موقعه في التركيب؛ إذ قد يكون فاعلًا وقد يكون مفعولًا، وهذا بخلاف (المضاف إليه) فقولنا مضاف إليه بيان لإعرابه فهذه وظيفته الإعرابية.
ومثل المضاف في كونه صفة لا وظيفة (المبتدأ) فهو اسم قدّم وأُعيد إلى الأصل الإعرابي للألفاظ الأسماء والأفعال وهو (الرفع)، ومن أجل ذلك ذهب أستاذنا داود عبده إلى أنه «لا فائدة عملية ترجى من تعليمه أن الفاعل في الجملة الثانية [التلميذ قرأ الدرس] ليس التلميذ كما في الجملة الأولى [قرأ التلميذ الدرس]بل ضمير مستتر تقديره هو»(نحو تعليم اللغة العربية وظيفيا، ص55). فليس المبتدأ إذن إلا في جملة مغيّرة عن أصلها، يُقدّم الاسم منها ويخلفه ضمير يعبر عن مكانه ويربطه بالجملة، وهذا ما يمكن أن نفهمه من شرح أستاذنا عبد القادر المهيري في كتابه (نظرات في التراث اللغوي)، فبعد أن وجه جملة من النقود لما سمّي بالمبتدأ قال في (ص47) «ولا يمكن للدارس في العصر الحديث أن يُسلّم بهذه النظرة وأن يقتفي أثر النحاة في تخريجاتهم المنطقية، والأسباب الداعية إلى ذلك عديدة، فمنها أنّها تقتضي غض النظر عن نوع العناصر المكونة للجملة، فالفعل لم يحسب له حساب وكأن وجوده لا يكسب الكلام صبغة خاصة ولا يمحضه لأداء معان لا تتسنى تأديتها بدونه». وليس يتحقق ما يريده أستاذنا إلا بالتخلي عن بعض المسلمات النحوية التي منها عدّ علامات الإعراب مرتبطة بوظائف الكلمات في أداء المعنى التركيبي كارتباط الفاعلية بالرفع والمفعولية بالنصب والإضافة بالجر، وذلك بالتخلي عن تلك المسلمات، قال «فإذا ما تخلينا عن هذا المبدإ واعتبرنا أنّه ليس كل فاعل مرفوعًا، وليس كل مفعول منصوبًا، وليس كل مضاف إليه مجرورًا؛ أمكننا أن نعرب الاسم الوارد في صدر الجملة بالنظر إلى علاقته المعنوية ببقية عناصرها، فهو تارة فاعل-مرفوعًا كان أو منصوبًا بإنَّ- وتارة مفعول، وتارة مضاف إليه، فالمعنى وحده هو معيار التحليل وحركة آخر الكلمة ليس البتة نتيجة له، وإذا كان لا بدّ من تعليل هذه الحركة اكتفينا بأن نقول إنّها وليدة مرتبة الاسم المعني بالأمر أو نتيجة لبعض الأدوات المتقدمة عليه»(ص50). والمبدأ الثاني الذي لا بُدّ من التخلي عنه فهو عدّ الضمائر المتصلة بالأفعال مجرد علامات مطابقة أي هي خوالف لأسماء ظاهرة كان هذا مكانها قبل أن تُقدم.
ويضرب أستاذنا المهيري أمثلة لما قرره، ونجد في (ص51) جدولًا يحلل فيه بعض الجمل التي بدأت بمرفوع يعربه النحويون مبتدأً، وهو يعربه بما تقتضيه الجملة الأصلية قبل تحويلها، ومن ذلك (إنَّ الزائرَ وصل) يقول في التحليل «الزائر: فاعل بُدئ به منصوب بإنَّ، وصل: فعل مطابق لفاعله»، ويحلل (الزائرُ حيّيته) بقوله «الزائرُ: مفعول به بدئ به مرفوع، حَيّيتُ فعل مسند إلى المتكلم، (ـه): ضمير رابط بين الفعل والمفعول به المقدّم».
وربما يشكل أنَّ المبتدأ قد لا يكون خبره جملة فعلية، مثل (زيدٌ أخوك) و(أُحدٌ جبل)، ولعل حلّ هذا في القول بأن العنصر الفعلي الربط بين أجزاء التركيب قد استغني عنه، وهذا ما يفهم من قول مهدي المخزومي عن الرابط الدال على الإسناد، فما يسمى بكان الزائدة هو الرابط (في النحو العربي نقد وتوجيه، ص32)، فزيد أخوك هو في أصله: زيد يكون أخوك، وأحد جبل هو: أحد يكون جبل.
ما أريد قوله هنا أنّ ما يسمى بالجملة الاسمية هي جملة محولة عن الجملة الفعلية، وأنّ المبتدأ صفة لاسم تقدم من الجملة الفعلية فارتفع لتقدمه؛ ولكنّ هذا يشكل بعض الإشكال، وهو أنّ المبتدأ لو كان مقدمًا عن تأخير لوجب القول إن الجملة في أصلها (يكون زيدٌ أخاك) بنصب (أخاك)، و(يكون أحدٌ جبلًا) بنصب (جبلًا)، وهذا قول صحيح، ولكن التغير يأخذ مراحله، فالتغير في تقديري مرّ على هذا النحو: يكون زيدٌ أخاك) زيدٌ يكون أخاك) زيد يكون أخوك) زيد أخوك، وقد يُسأل عن علة تخلف النصب حين توسطت (يكون) والجواب أنها بتقدم فاعلها فقدت النمط العاملي المعهود (فعل+فاعل+مفعول) فضعف تأثيرها اللفظي على المفعول.
ولعلنا بهذا ننتهي إلى أن المبتدأ صفة للفظ المتقدم لا وظيفة إعرابية.
- الرياض