كان ذلك عام 1980 حيث طل الشيخ حمد الجاسر ليحاضر علينا في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وكان ملبياً لدعوة من طالبة في الجامعة كانت قد تقدمت باقتراح بدعوته للجامعة وراسلته لتأخذ موافقته فلبّى رغبة جاءته من تلميذة جامعية في المستوى الأول إلى باحث بارز، ووجد أن دعوة بسيطة كهذه أغلى عنده من كل رسميات الجامعة، وحينما حل على المنصة كان الجو عامراً بالبهجة به وبموقفه الجليل مع الطالبة، وتبع هذا أن مقدم المحاضرة تورط حين طلب من الشيخ نبذة عن نفسه لكي يقدمه بها، وجاءه جواب الشيخ بأن يترك الأمر له ليقدم نفسه، وجاءت ورطة المقدم الأخرى حين أبلغنا بأن الشيخ طلب منه ترك التقديم له، فما كان من الشيخ إلا أن شكره على ذلك، وقال (هذا أخوكم حمد ثم مد يده لشماغه ونزعه عن رأسه وقال سأحدثكم حاسر الرأس ولو كان حسر الرأس عيباً لما تعبّد الناس ربهم حاسري الرؤوس في عرفات)، ثم شرع في محاضرته.
جرى كل هذا أمامنا ولا شك أن كل من في القاعة قد انطلق ذهنه مع القيم الإنسانية في سلوك العالم العلاّمة حمد الجاسر، بدءاً من موقفه مع الفتاة الطالبة التي دعته متخطية كل جبروت المؤسسة وبيروقراطيتها، لتجد قلباً كبيراً يستجيب لرغبتها ويكرمنا كلنا نحن غير الرسميين حيث يأتينا ضيف مهم من الرياض دون وسائط بيروقراطية، ثم في حركته مع نكران الذات والاستهتار بخطب التعريف والرسميات، مع رأس حاسر وضع الشماغ على الكرسي المجاور وكأنما يحدث أبناءه وبناته في منزله.
لقد نزل منا منزل الروح من الجسد وكأنما صنع للجامعة يومها حساً بأن العلم أخلاق وسمو معنوي وليس رسميات ومباخر ومشالح، تلك ليلة عمرت أجواء الجامعة، وعند الوداع سألني عن رجل تعارف معه في ينبع عام 1352 هـ وصار بينهما قصة مع كتاب معجم البلدان، فقلت له ذاك والدي، وزدته أني أعرف القصة بتمامها برواية والدي، وهذا موضوع التوريقة القادمة بحول الله.