كنت في المقهى أقرأ في كتابي وقهوتي على حافة الطاولة، وجاء ليجلس في الكرسي المجاور لي وتبسم ثم سلم وزادها وصافح، وكلها لا تحدث عادة في مقاهي بريطانيا، ولكنه فعلها باندفاع وكأنه يعرفني لسنوات ثم لحقته زوجته فعرفني عليها ثم سألني عن نفسي وعن مقامي في مانشستر، ولاحظت لهجته الأسكتلندية وكم طرب إذ قلت له ذلك وزادت فرحته حين أبلغته أني قد درست في أدنبره عام 1972 ولسنتين وحدثته عن الجبل الشامخ فيها (آرثر سيت) وكيف كنت أمضي فيه بعض وقتي وكان الجبل يطل على سكن الطلاب وفي تعرجاته مروج وبحيرات يخفيها خلف صخوره وكنا نرتادها كلما سمح الجو والمطر، ونشاهد الغنم ترعى ومعها راع أو راعية تصفر لها فتتحرك حسب نغمة الصافرة، وفي هذه اللحظة وقعت منا معا نظرة على الجريدة الملقاة بجانبنا وفيه صورة رئيس وزراء اليونان الاشتراكي المنتخب حينها (فبراير 2015)، وصوره تعمر صفحات كل الصحف بما إنه سيعيد الأسئلة عن مسيرة الاتحاد الأوروبي وبرامج القروض التي تكبل الشعوب، كان صاحبي فخوراً به لأن شهادته للدكتوراه من أدنبره ولأنه اشتراكي ديموقراطي، ويرى أنه تعلم الاشتراكية في أسكتلندا، ثم سألني من باب التأكيد والقطع قائلاً: أنت اشتراكي طبعاً، وحينها عملت ترجمة فورية للقول المأثور عندنا: أحب الصالحين ولست منهم، وأكدت له أني أكره الرأسمالية والإمبريالية بكل قطع، ثم شرحت له تجربتنا عام 1973م حين قيام حرب أكتوبر ونشاطنا حينها في مظاهرات واعتصامات وحملات لشرح قضية فلسطين في شوارع أدنبره وفي ممرات مباني الجامعة وعمارات الطلاب... وانطلقت بحماس روحاني وكأني أعيش اللحظة مرة أخرى، ثم سألته عن مشروع انفصال أسكتلندا، وحينها رد متحمساً للفكرة ومضى يروي لي أن بريطانيا المتحدة تصرف ثلاثة أرباع ميزانيتها للقنابل النووية ولصناعة الجيش والسلاح، ولو استقلت أسكتلندا فستخلص من هذا كله ولن نحتاج لقنبلة نووية تأكل كل مخزوننا الاقتصادي ولن ندخل في صناعة الحروب، ثم زاد ضاحكاً: ليس للإنجليز من منة علينا سوى أنهم استعمرونا لقرون وأذلونا وكسروا روحنا العدوانية والحربية السابقة فصرنا مسالمين وطيبين وإنسانيين ونريد أن نظل على هذه الصفة التي لن تستمر معنا رسمياً إلا إن تحقق لنا الاستقلال.
كان يتكلم وزوجته تبارك كلامه، مع أنها إنجليزية، أما أنا فوجدت فيه رفيقاً روحانيا وإنسانية أطربتني أفكاره المتسامية ومضيت معه في الحديث في شراكة ثقافية، ولم أبخل عليه بالإجابات عن كل سؤال وجهه لي عن رؤيتي الكونية حتى تصورني شريكاً وجدانياً وعقلياً له، ومضت ساعتان في حديث منهمك تشاركنا في صناعته، وعند لحظة المغادرة شد على يدي بأخوة وإنسانية، وقال أعد عليّ المثل الذي قلته في بداية حديثنا فرددت عليه ترجمة المقولة : أحب الصالحين ولست منهم، وكنت أنوي أن أقول إني أعنيك بهذا ولكنه لم يدع لي فرصة حيث هتف بي: أنت إنساني وكوني يا عبدالله، ولم أجد حينها إلا أن أترجم له المثل المصري: ربنا يجبر بخاطرك. وإن كانت الكلمات قد تعثرت دون تحقيق معنى (جبر الخواطر) إلا أن منظره وهو يودعني أوحى لي أنه قد فهمها دون كلمات.
توادعنا، وظللت مدة مكثي في مانشستر أتردد على ذاك المقهى بعينه تحية لجلسة ضمتني معه أما هو فقد رحل متنقلاً بين بلدان أوروبا مع زوجته حيث يستمتعان معاً بتقاعدهما وبإنسانيتهما.