الذين درسوا أسرار اللغة ومرامي النحو وحالات الحكم والأمثال تلك نطق بها العرب ومن زلف إليهم من غيرهم يُدرك من خلال الدراسة المتأنية العميقة الحالة النفسية لكل شاعر وخطيب، بل رئيس قوم، ذلك أنه ومن كثير من الحالات التي يمر بها الشاعر أو الخطيب أو الرئيس «العميد» نُدركُ جيداً الحالة النفسية التي يكون عليها ناهيك أنه قد يكون بسببها يقرب من العبقرية أو هو (قاب قوسين منها أو أدنى) والذين يمرون بحالاتٍ كثيرة من المعاناة الشديدة مع توازن جيد وواقعية يميلون كل الميل إلى الجودة المتناهية في رمي المعاني الجليلة من خلال مفرداتٍ قوية آسرة.
وإذا كانت البيئة وإذا كانت التربيةُ كلتاهما يُثر في نفسية الرجل فإن القدرات والطموح الجيد المتوازن الواعي كل ذلكَ يجر إلى لهم أقوى لحالة كل أحدُ نُخضعه للدراسة، ولهذا كانت كثير من الأسر تُدركُ هذا على حالٍ جيدةٍ من البصيرة فيكون السبيل في تمامه حتى يبلغُ الابن الشاعر أو الحكيم أو الرئيس شأواً عالياً من: النجابة والقوة والموهبة، ألا نتذوق الفرق بين: امرئ القيس وزُهير بن أبي سُلمى المزني فذاك طائش عربيد مُتنقّل، وهذا شاعر مُتماسك حكيم مُهذب، وإن كان كلاهما من فحول الشعر.
وهذا. الجاحظ.. وابن قتيبة كلاهما قد تضلّع من العربية والنحو والأدب لكن ذاك خلط هزلاً ماجناً مُسفاً وهذا لقبه النَّقادُ بالإمام لشدة حيائه وبعد عقله عن السفاسف وساقط القول، وإن كان لا يُستغنى عن كتبهما من جلال وثقل كتب ابن قتيبة.
وهذا (البخاري) «محمد بن عبدالله» وابن خلدون كلاهما أجاد في التاريخ والرواية والترجمة.
لكن ذاك خلط في تاريخه الضعيف بما لا أصل له وبرواياتٍ لا سند لها بينما هذا. في تواريخه الثلاثة: (الكبير.. والصغير.. والأوسط) قد نال الإمامة الكبرى عبر تطاول العهود.
وهذا أبو الفرج الأصفهاني في كتابه: (الأغاني) خاصة، وهذا ابن الأثير الجزري في رواياته، وأخباره، وقصصه في: (تاريخه) الخالد.
فذاك خلط بين: السفه، والكذب.. وناثر القول وروايات هشة، وهذا قعَّد وأصَّل وأجاد فيما رواه وجلبه في: تاريخه».
فحين نُخضع حياة أولئك لبحث نفسي واعٍ مُتأنٍ مبسوط قد أتى على كل حال وكل طرف نجد الخلل الفيسولوجي يكمن في ذات الأداء.
ولا يُقال أن امرأ القيس أجاد الوصف فهذا لا شك فيه لكنه وصف لا يصعد إلى الحكمة ومجرى الأمثال.
نعم تعجب من وصفه لكنك تعجب من داخل (القلب)، لكن زهيراً يقودك لتعجب به من خلال (عقلك)، وهذا هو ما فات على (موجيولوث) حينما زعم أن الشعر الجاهلي منحول ونقله عنه (طه حسين) في كتابه (الشعر الجاهلي) دون أن يذكره.
وعلة هذا أن (فاقد الشيء لا يعطيه) فدراسة الحالات كلها توهن عظم من زعم أنه منحول (فطه حسين) - رحمه الله- لم يُدركْ البُعد النفسي في المواهب والقدرات والحالات والطبيعة إنما نظر من خلال نظارة أوروبية لعله لم يكن أصلاً مقتنعاً بها.
وليس هذا مني.. (جملة عارضة). بين قول وقول فإن قصدي ينصب كله على أن التربية الخلقية.. والأسرية والروحية هي الفرقُ بين امرئ.. وابن أبي سُلمى وقس على هذا.
أقول: (ولا ينبئك مثل خبير).
وفي ذات المنطلق فإن (المعز لدين الله الفاطمي).. (وصلاح الدين الأيوبي) كلاهما قد حكم ونظر وساس لكن ذاك مال مع تربية لا شعورية إلى مذهب كان وبالاً عليه، وقد كان هو يُدركُ هذا لكنه وترسخات وترسبات التربية الباكرة مع طموح نقلب مع الأيام إلى طمع فأودى به هذا إلى المذمة.
و(صلاح) اختلف عنه من حيث البعد السابق نحو: المعالي. وتقرب حال صلاح من حال عبدالرحمن الناصر.
فالمقصود هنا كما هو المقصود هناك أن بناء العقل وبناء الأخلاق وبناء النفس المتوازنة الواعية النزيهة الكريمة هذا كله معطيات جازمة لتعطي التاريخ حقيقة البذل إن من شاعر أو حكيم أو عميد، ولا مهرب من القول في هذا كله أن المرء أياً كان يستطيع بناء نفسه من سوابق غيره من التاريخ المتطاول لسير الشعراء.
وسواهم ممن نال حظاً من الذكر ولو بسبب بيت أوبيتين.
- الرياض