{ألم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2)}.
هكذا افتُتحت سورة البقرة، أطول سور القرآن الكريم, إحدى الزهراوين، سنام القرآن الكريم، وجاءت هذه الحروف المقطعة أو ما يعرف بفواتح السور (ألم) في آية واحدة مستقلة، ثم تبعتها بقية آيات سورة البقرة.
ثلاثة حروف هي (الألف) و(اللام) و(الميم). يتكون كل حرف منها من ثلاثة أصوات: ألف من (ا، ل، ف)، لام من (ل، ا، م)، ثم أخيراً ميم ويتكون من (م، ي، م). فما هي الحقائق اللسانية الصوتية البيانية التي تظهرها دراسة تلك الحروف؟
الحقيقة الأولى: أن أصوات هذه الحروف تشكل (البنية الصوتية التحتية اللسانية البيانية) التي تبنى منها الدلالات على مستوى الدلالة القياسية (الحرة) للحروف، ومن ثم على مستوى المعاني التي تبنى منها الكلمات، والتي تشكَّل منها الجُمل فيما بعد؛ ولذلك تسمى هذه الحروف حروف المباني.
الحقيقة الثانية: أن هذه الحروف الثلاثة تشكل الأساس للشبكة الدلالية اللسانية؛ إذ سنرى كيف تفتح هذه الحروف الدلالات بعضها على بعض، وتفيض بعضها على بعض في سلاسة وترابط عجيب.
الحقيقة الثالثة: إذا كانت هذه الحروف المقطعة قد سميت بفواتح السور؛ لأنه تفتتح بها قراءة السور، فإنها أيضاً من ناحية بيانية تفتتح المعاني اللسانية العربية المبينة في تلك السور وفي جميع نص القرآن الكريم، أي أنها تفتح الدلالات القياسية لها، وتستفيض في جميع سور القرآن الكريم حتى يرى القارئ أن جميع سور القرآن يجمعها شبكة دلالات ومعانٍ واحدة، تفيض على بعضها البعض، تنطلق من دلالة (التوحيد والوحدانية) إلى دلالة (الوصل/ الاتصال) إلى (دلالة الجمع)، إلى دلالات أخرى في الحروف الأخرى، ثم تعود إلى دلالة التوحيد مرة أخرى في شبكة من الدلالات اللسانية المحكمة.
وقد تحدثت بشكل مختصر في المقالات السابقة عن الدلالة القياسية لحرف الألف، وقلت إن الدلالة البنائية الشكلية اللسانية لحرف (ألف) تدور حول دلالة التوحيد والواحدية والوحدانية، ثم الدلالة القياسية لحرف اللام التي تدور حول دلالة (وصل/ اتصال) شيء بشيء، و(جمعها) في شيء واحد. والآن سأتحدث عن الدلالة القياسية لحرف الميم، وكيف تتكامل دلالة حرف الميم في بناء شبكة الدلالة اللسانية مع حرفَيْ الألف واللام.
ورد في معجم محيط المحيط عن حرف الميم ما يأتي:
«الميم هي الحرف الرابع والعشرون من حروف المباني، وهي في العبرانية والسريانية ميم، وربما كان معناها ماء؛ لأن صورتها في اللغات القديمة تشبه الأمواج...».
والواقع أن تطور رسم هذا الحرف قد وصل إلى اللغة اللاتينية المعاصرة بصورة مختزلة، لا تبعد كثيراً عن صورة موجة الماء؛ إذ تكتب حالياً هكذا (M) معبرة عن الارتفاع والانخفاض في موجة الماء، وهذا أقصى ما قد نستنبط من دلالة لهذا الحرف في رسمه اللاتيني. أما اسمه فينطق (إم) من صوتين فقط، بينما اسمه في اللسان العربي المبين (ميم) بثلاثة أصوات (م، ي، م)، ولها دلالات صوتية قياسية عميقة.
وقد قرأت قولاً لوالدي عبدالله نور عن حرف ميم (م) في كتابه (نون القرآن الكريم)، بما يأتي:
«أن حرف الميم عندنا في اللغة العربية عبارة عن نونين».
وبدراسة حرف الميم من الناحية الشكلية البنائية يظهر حرف الميم برسم دائرة مغلقة تماماً هكذا (م). وإذا عرفنا أن حرف نون (ن) هو نصف دائرة فإن (جمع) و(ضم) نون أخرى إلى نصف الدائرة ينتج عنه دائرة كاملة، وبذلك تكون الدلالة البيانية القياسية لحرف الميم هي دلالة (جمع) شيء إلى شيء في شيء واحد، أو هيئة واحدة، أو حقيقة واحدة، وهي دلالة واضحة لا تحتاج إلى تفصيل.
والعجيب في اللسان العربي المبين ونحن نتأمل اسم حرف الميم أننا نجد أن اسم حرف ميم يتكرر فيه صوت (م) مرتين كما يتكرر صوت (ن) مرتين في اسم حرف النون، في تطابق مع المسألة الشكلية الدلالية في أن حرف ميم هو عبارة عن نونين، أي أن تسمية حرف ميم تؤكد حقيقة أن هذا الحرف هو (جمع) نونين إلى بعضهما البعض في صورة واحدة.
ومن العجيب أيضاً أن حرف نون الذي هو حرف الغنة، وهو الصوت الذي يظهر من الأنف عبر الخيشوم، هو أظهر الحروف من الناحية الصوتية، ولا يشاركه في هذه الصفة الصوتية إلا حرف الميم، وهذا أمر منطقي باعتبار أن الميم هو ناتج وحصيلة جمع نونين في حقيقة صوتية واحدة، استلزمت أن تكون الميم أيضاً تبعاً لهذه الخاصية الصوتية، أي خاصية ظهور الغنة كحقيقة صوتية لحرف الميم أيضاً.
هذه الدلالة الشكلية اللسانية لحرف ميم، أي دلالة (جمع) شيء مع شيء في حالة واحدة، تظهر أيضاً في بناء الدلالة اللسانية لحرف اللام التي ذكرتها في المقالة السابقة؛ إذ ذكرت أن الدلالة القياسية لحرف اللام تدور حول معنى (وصل/ اتصال) شيء بشيء، و(جمعها) في صورة أو شيء واحد. ودلالة الجمع هذه جاءت لكون اسم حرف اللام مكون من صوت (م) في آخره فجاءت دلالة (الجمع)، بمعنى أن دلالة حرف الميم مستفيضة حتى في تركيب اسم حرف اللام (ل، ا، م)، وهذا يقودنا إلى كيف يمكن أن تبنى الشبكة الدلالية اللسانية للأصوات، ومن ثم الحروف، وهو ما نرى بوادره تظهر في العلاقة بين الحروف الفواتح المقطعة الثلاثة التي افتتحت بها سورة البقرة بقول الحق (ألم)، وكما سنرى في بقية الحروف الفواتح الأربعة عشر الأخرى إن شاء الله تعالى.
وكما قلت سابقاً، فإن لهذه الحروف دلالة شرعية، تدور مع الدلالة اللسانية؛ ولذلك نجد أن السور التي ورد في فواتحها حرف الميم قد ورد فيها أيضاً ذكر يوم (الجمع) الذي هو يوم القيامة بكل التسميات والمرادفات الأخرى لذلك اليوم العظيم، حين (يجمع) الله الخلائق للحساب على صعيد واحد.
وكما قلتُ سابقاً أيضاً، فإن الدلالة اللسانية تدور مع الدلالة الشرعية، وتدور أيضاً مع الدلالة الكونية؛ ولذلك نجد أن الدلالة الكونية لحرف الميم تظهر بوضوح كظاهرة علمية مشاهدة في جميع العلوم. وأكبر مثال على ذلك في مجال علم الكيمياء (اجتماع) ذرتي الأوكسجين مع ذرة الهيدروجين في مادة واحدة لتكوين ما يعرف بالماء، وهي المادة الكونية التي جعل الله منها كل شيء حي. يقول الحق تعالى في سورة الأنبياء - الآية 30 {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَي أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}.
ويمكننا أن نستخلص من الحديث عن حرف ألف وحرف لام في المقالات السابقة وعن حرف ميم في هذه المقالة أن كل حرف من الحروف المقطعة الأربعة عشر التي وردت في فواتح بعض سور القرآن الكريم يقدم للدراسات اللسانية التفصيل المطلوب لاستنباط دلالته من رسم (صورة) ذلك الحرف، كما يمكن أن يستنبط منه قاعدة لسانية تشرح كيف يتم (بناء) رسم أو صورة ذلك الحرف. وبذلك يمكن دراسة نظام رسم الحروف فيما يخدم النظرية اللسانية البنائية الجديدة على مستوى دراسة الدلالة القياسية للحروف في حالتها الحرة الأولى، وعلى مستوى الشبكة الدلالية المُحكمة قبل دخولها في بناء (معاني) الكلمات، وهو مستوى آخر من الدراسة اللسانية.
إننا على عتبة عصر جديد، سنرى فيه كيف تظهر ثم تتطور الدلالة اللسانية القياسية للحروف وشبكتها الدلالية، بدءاً من حرف (ألف)، مروراً بحرف (لام)، ثم بحرف (ميم)، ثم بقية حروف اللسان العربي المبين؛ لتنفجر ظاهرة التطور اللسانية، وتفجر بقية الظواهر الشكلية واللسانية والكونية والشرعية الأخرى في هذا العلم العجيب الذي هو علم اللسان العربي المبين.
والله تعالى أعلم.
الرياض
abdulalnour@hotmail.com