هذا المقال توطئة للعلاقة بين الرواية والفلسفة..
الرواية هي مرحلة متقدمة لبث المعنى من الذات المنفعلة؛ إذ إن المعاني انتقلت منذ بدء الأدب الإنساني عبر الشعر المحصور بالقافية والوزن، وفي تأريخ أدبنا العربي مرت بمرحلة تقعرية تشابك فيها اللفظ الجزل بالمعنى السطحي، ثم انتقلت إلى تجديد في المعنى تلازم مع قضية العلاقة بين (اللفظ والمعنى). وأيضًا ظهر إشكال (السرق) في أدبنا العربي ليحيط المعنى بهالة تحصره عن الإبداع وإنْ ادعت أنها تحارب الإبداع. ومع القرن العشرين يكسر شعرُ التفعيلة عمودَ الشعر الذي وضع تقعيداته (المرزوقي في شرح الحماسة)، فيفيض المعنى بتحوله إلى الرمزية والإحالة والبعد عن الوضوح والسطحية. ومن بعد هذا يكتسح السرد متمثلًا في الرواية ليحل محل الشعر، ويأخذ منه وهج الإبداع؛ وصار الروائي على كرسي أعلى مما اعتلاه الشاعر من قبل، وانتثر المعنى، وفاض عن وعائه، حتى جاءت مرحلة ما بعد الحداثة التي أبدعت (رواية اللارواية)؛ لتحطم من خلالها كل تقنيات الرواية فيندلع المعنى من خلال الكتابة النصية أكثر من الحدث والشخصية والمكان أو الزمان.
ولعل القوة التي ترتكن إليها الرواية في نثر المعنى هي تعدد تقنياتها التي تعطي المبدع أو الأديب مساحةً شاسعة؛ ليفيض بما تجود به قريحته المشاعرية والفكرية أيضًا؛ إذ إن الارتباط الفكري والفلسفي مع الرواية لم يكن ذاته مع الشعر؛ لأن الشعر يؤمن بالحدِّية بينما الرواية تؤمن بالسردية، وأضحت الرواية تتبارى على الطول حتى بزغت لدينا رواية (الأجيال) التي تمتد إلى عدة أجزاء مترابطة. ولأن الرواية تعتمد على تقنيات متعددة، كالشخصيات والزمان والفضاء والسرد والحدث، فإنها تمنح المبدع فضاءً رحبًا؛ ليبث معانيه ومشاعره وفلسفته عبر وسائط عديدة وبأشكال متعددة. وهذا النمط أو الجنس الأدبي هو الذي يتوافق مع مرحلتنا الآنيّة التي تفجّرت فيها العلوم والمعارف والفنون حتى تجزأت وتفتتت وتشرذمت؛ فلم يستطع الشعر أبدًا أن يلمّ بها بل ولا بجزء منها. ولا أدل على هذا إلا الكم الهائل الذي يصدر عن دور النشر من روايات عربية وعالمية، حتى إنه في العام المنصرم تقدمت ما يقارب تسعمئة رواية مرشحة لجائزة البوكر. ولعل فوز السرد بجائزة نوبل منذ العام 2012م حتى 2014م دليل آخر على هذا المنحى المتفجر للسرد. ولا أدري، هل ستستمر الجائزة لمنحى السرد أم تلتفت للشعر في الأعوام اللاحقة؟!
وهل لنا أن نعتبر اعتماد عدد من المفكرين على الرواية لبث أفكارهم في عمل سردي يعتبر أيضًا دليلًا أو نتيجةً لكون الرواية تمنح المبدع فضاءً أكثر رحابة لنجوى المعنى مع المتلقي؟!! وأذكر هنا عدة روايات للمفكر العربي عبدالله العروي وأيضًا للمفكر عبدالإله بلقزيز، وغيرهما.
ولهذا فإن أفول وهج الشعر ليس بسبب الشعر ذاته وبسبب قلة المبدعين من الشعراء بل بسبب خارجي عنه، وبسبب فكراني فلسفي يمس شاعرية الذات الإنسانية وفكرانيتها التي انزاحت عن كل تأطير وتحديد يعيقها عن البث.
صالح بن سالم - المدينة المنورة