دار نقاشٌ بيني وبين أحد الأصدقاء مؤخرًا عن الفلسفة الوجودية؛ فعادتْ بي الذاكرة إلى تلك الأيام التي اعتكفتُ فيها لساعات طويلة قبل سنوات في مكتبة عامة، لدراسة الوجودية وتكوين تصوّر عنها. والحقيقة أني خرجتُ في تلك الفترة بنتائج أراها أساسية، وسأورد أبرز ما أذكره منها باختصار في النقاط الآتية، كمدخلٍ لما سيأتي بعدها من تفريعات وتفصيلات:
1- الوجودية ببساطة لها من اسمها نصيب؛ فهي حركة ثقافية ارتبطتْ بقضية (إثبات الوجود) أي أنها تيار أو توجّه فلسفي يدور حول الإنسان وتفرّده، بوصفه كائنًا مفكرًا له حريّة واسعة وإرادة مستقلة في كلِّ اختياراته وسلوكياته الظاهرة والباطنة، فلا يفتقر إلى وصي يرشده أو يهديه، فالوجودية بناء على ذلك تعطي هذا الإنسان أقصى درجات الحريّة لإثبات وجوده كما يريد.
2- أمُّ الأفكار الوجودية، التي يدور كلُّ شيء في فلكها عند الوجوديين فيما ظهر لي، هي فكرة (الوجود السابق للماهية)، فوجود الإنسان سابق لماهيته عند الوجوديين، أي أنه يصنع نفسه بحرية لا محدودة، ودائمًا أحبُّ تقريبَ هذه الصورة بهذا المثال:
لو أراد أحدنا بناء منزل مثلاً فإنه سيذهب لمكتب هندسي ليرسم ويصمم له المخطط الذي يسبق البناء، ثم يبدأ المختصون والعمال في بناء المنزل وفق ما في ذلك المخطط، وبهذا الشرح تكون ماهية المنزل سابقة لوجوده.. وهكذا لو نقلنا المثال من المنزل إلى الإنسان، فسنجد أن كثيرًا من البشر - رغم اختلافاتهم في الأديان والمعتقدات - يرون أن ماهية الإنسان سابقة لوجوده، كما في مثال المنزل السابق، أي أنهم يعتقدون بوجود أقدار إلهية أو ربانية، أو نواميس أو قوانين معينة، وجدت في الكون أو وضعها خالق الكون، تجعل كلَّ إنسان يسير في حياته وفق ما قُدّر أو كتب له، أو حسب ما يناسبه من تدابير الرب ونواميس الحياة.
أما الوجوديون فيعتقدون العكس، فيرون أن وجود الإنسان يسبق ماهيته، أي أن الإنسان يصنع ماهيته بنفسه، وهم بذلك يقتربون من التشابه مع فرق عقدية في الإسلام وغيره من الأديان والفلسفات، كالقدريّة الذين أثاروا كثيرًا من الجدل في العقيدة الإسلامية، حين قرروا أن العبد يخلق أفعاله، أو كما يعبّرون: «يخلق فعل نفسه».
والحقيقة أن هذا يدفع بي نحو نقطة أساسية كبيرة، وهي أن الإيمان أو عدم الإيمان بوجود خالق لهذا الكون مهم في كثير من مسائل وموضوعات الفلسفة بشكل عام، بل أراه النقطة الأولى التي تؤثر في قراءات كلِّ فيلسوف لكثير من صفحات الكون والإنسان والحياة بكل ما فيها.. ومن ذلك مثلاً أن الإنسان إذا آمن بوجود الخالق فإن هذا الإيمان يستلزم غالبًا إيمانات أخرى تابعة، كالإيمان بوجود التدبير الرباني، ومن ضمن هذا التدبير الذي يستلزمه الإيمان بالخالق التحكم في مسار الحياة والكون؛ ومن ذلك مسائل كالقضاء والقدر مثلاً.. وبذلك يخضع الفيلسوف المؤمن بخالقه إلى هذه القناعة الإيمانية، التي تؤثر بالتأكيد في قراءته لكلِّ ما يحيط به تقريبًا، وهذا لا يقتضي بالضرورة التوقف عن التفلسف والتأمل والعمل والاجتهاد وطلب الأفضل والأكمل، بحجة أن كلَّ شيء مرسوم ومقدّر سلفاً كما فهم البعض.
ذلك أن الاقتناع بوجود التدبير الرباني لا يمنع من القيام بكل ما يراه الإنسان مفيدًا نافعًا أو ممتعًا له، أو يسير به نحو السعادة والراحة والنجاح والإبداع وما شابه ذلك، بل يدعم ذلك في نظري ويشجع عليه؛ لأننا ببساطة إذا آمنا بربنا الخالق العظيم سنؤمن بنواميسه وقوانينه وسننه الكونية.. وهذه السنن والنواميس الكبرى المؤثرة في الإنسان وغير الإنسان في اعتقاد المؤمن بالله هي - في اعتقادي - ما يعتبره غير المؤمنين من الفلاسفة (قوانين ونواميس عامة حاكمة للكون والحياة بكل ما فيها).. وبالتالي: يحسن بالمؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء أن يجتهد كلُّ واحد منهم في (بذل الأسباب) التي يرى - وفق قناعاته ومقاييسه - أنها تساعده على الاستفادة من تلك النواميس والقوانين والسنن الكونية بأكبر قدر ممكن، بغض النظر عن مصدر أو سبب وجودها.
مع ضرورة التوقف عند إشكالية قد تظهر من كلامي السابق، وهي أن هناك من يؤمن - بصورة ما - بوجود الخالق العظيم، ولكنه لا يعتقد أنه يتدخل في حياتنا، وتُعبِّرُ تلك المذاهب الفكرية عن ذلك بأساليب مختلفة، منها فيما أذكر مثلاً: «خلق اللهُ العالمَ ثم تركه» تعالى الله عن ذلك. فهؤلاء - رغم إيمانهم بالخالق الذي يسمونه مثلاً «المهندس العظيم» - يشتركون - بلا أدنى شك - عند خوضهم في (منطق كشف تاريخ الإنسان) وغير الإنسان مع الملاحدة في النظر إلى تلك القوانين نظرة مجردة غير خاضعة للسلطة الربانية الحكيمة، التي نؤمن نحن بها والحمد لله.
ومن هنا أصل إلى ما أريد أن أقوله عن «الوجودية» في هذه النقطة تحديدًا: فقد شاع بين فئام من الناس أن كلَّ الوجوديين ملاحدة، وهذا غير صحيح، فسارتر وهيدجر وأمثاله ما تغلب عليهم الصبغة الإلحادية، ولكن غيرهم من الوجوديين يؤمنون بالله، مثل الفيلسوف واللاهوتي الدنماركي الشهير «كيركيغارد»، الذي أراه لا يقل أهمية عن سارتر في هذا التيار، فقد يكون «جان بول سارتر» هو الرائد الأول الذي أتى بهذا المصطلح في الأدب، إبّان المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، متأثراً باستفحال الموت وما نتج منه من خوف وهلع في تلك الفترة، التي سيطر على كثير من الأفراد فيها الشعور بالوحدة والكآبة والعبثية والإحباط، فقُتلتْ في دواخلهم - مع كثرة قتلى الحروب - معاني الحياة؛ فتكونتْ في أعماق الأفراد حالة من (القلق الوجودي) العارم العام، الذي أفقد الإنسان حريته ومسؤوليته، وزرع في كثير من قلوب البشر أشجار الإحباط والحزن والانكسار، كنتيجة طبيعية لما رأوه من أشكال وأهوال الدمارات الشاملة في تلك الحرب العالمية.
فزادتْ الحاجة إلى حركة فكرية كبرى، تعزز في داخل الإنسان إبراز قيمة الوجود وأهميته، فظهر هذا المصطلح في أدب تلك الأزمنة، على يد سارتر ومن جاء بعده.
كل هذا صحيح، ولكننا إذا أدرنا دفة النظر إلى الوجودية الأخرى التي ولدت في مدينة «كوبنهاجن» في الدنمارك، والموجودة خارج إطار الأدب، فسيظهر لنا اسم الفيلسوف الكبير «كيركيغارد»، الذي يعتبره كثير من المتخصصين والباحثين المؤسس الأول للمدرسة الوجودية، من خلال أفكاره السابقة لكثير من شبيهاتها اللاحقة والمتأثرة بها، خاصة أفكاره الواردة في كتابه الشهير «رهبة واضطراب».. فهذا الرجل مؤمن بالله بصبغة مسيحية، رغم اختلافه مع كثير من رجال الدين المسيحيين..
ولذلك كانت كثير من كتابات «كيركيغارد» الفلسفية مطالبات عنيفة لإعادة النظر في كثير من النواحي التي أساء القساوسة ورجال الدين فهمها في نظره.. كان يطالب مثلاً بإعادة النظر في مفاهيم من قبيل الخطيئة والندم والإنسان.. وبالتالي امتدتْ مطالباته لتصل - أحياناً - إلى ضرورة إعادة النظر في الديانة المسيحية كلها، وفهمها من جديد بطريقة أفضل وأصح.
وهناك أسماء أخرى كثيرة تدخل ضمن الوجودية المؤمنة بالله، كالقس المسيحي جبريل مارسيل، الذي كان يصرّ على نفي التعارض بين الوجودية والمسيحية.
3- النقطة الثالثة الأخيرة هي مثال قد يضع نقاطًا على حروف. ففي باريس إبّان بزوغ شمس الوجودية ونزولها من عقول الفلاسفة وكتبهم إلى الشوارع والأماكن العامة، أصبح الإنسان -مثلاً - يرى صورًا لشباب من الجنسين في ملابس غريبة ممزقة أو بالية أو متسخة في شوارع فرنسا، فالشبان يلبس كثير منهم ملابس النساء، ويضعون الأساور والحلي النسائية، بل يضع بعضهم مساحيق الماكياج، ويسير بعضهم حافيًا بلا حذاء، وبعضهم يسير مطلقاً لحيته الطويلة دون اهتمام أو تهذيب.. والنساء يمارسن كثيرًا من السلوكيات المشابهة الغريبة في اللباس وغيره.. وكل ذلك وغيره كان يفعل في كثير من الأحيان على أرض «الوجودية» وتحت مظلتها الواسعة.. أنا وجودي فمن حقي فعل كل ما يحلو لي لأكون حرًا مثبتاً لوجودي، وليس لأحد منعي أو التدخل في حريتي الشخصية.
لقد تأثر شباب فرنسا وغيرها من مدن أوروبا في تلك الأزمنة، أي في الأزمنة التي ذاعتْ فيها وراجت كتب سارتر وغيره.. لقد تأثروا بما في تلك الكتب والروايات والقصص الوجودية، فمن يعفون لحاهم الطويلة مثلاً تأثروا بأبطال سارتر في قصصه، حيث كانوا بلحى طويلة.. وقس على مثال اللحية كثيرًا من الأمثلة الأخرى.
انتهيتُ من المدخل أو المقدمة الثلاثية السريعة، وسنتعمق مع الوجوديين وفلسفتهم من عدّة جوانب في الجزأين القادمين.
وائل القاسم - الرياض