أول طبيب نفسي زرته كان قبل عشرين عاماً.. حينها كنت أعاني شح النوم وقلق الروح.
كان الطبيب يعرفني، ولذلك لم يتعامل معي كمراجع وإنما كصديق، وحدّثني عن القلق الإيجابي والحزن السلبي الذي يرسب في الأعماق دون أن ندركه، وحدَّثني عن أشياء أخرى.. ووصف لي عقاراً لم أستخدمه لأني كنت بخير، ولم أكن أعاني سوى ترف التفكير.
ونسيت الطب النفسي والأطباء النفسيين هؤلاء الذين يعتاشون على قلق الناس وتشظياتهم.
وبعد بون شاسع من العمر عدت وزرت طبيباً آخر، ليس لأن إيماني بهم تغير، ولكن لأن الحياة أيضاً تغيرت وأنا.
وكنت أنا أول من سأل الطبيب هذه المرة:
- لماذا يأتي إليكم الناس؟
أنزل نظارته على أرنبة أنفه وحدّق إلي من خلالها، ثم قال:
- يأتون لأنهم يريدون أن يأتوا.. يركبون سياراتهم.. يدفعون نقودهم ثم يصعدون إلينا ونجعلهم ينتظرون قليلاً فقط لنشعرهم بأهميتنا، ثم نستقبلهم كما أستقبلك الآن.
- إذاً نحن اليوم نلعب على المكشوف؟
- مع مراجع مثلك لا بد من اللعب على المكشوف.. وفي نهاية اليوم أنا من يقبض ثمن اللعب، وأنت من يدفع!
ولم يكن لنا من بد سوى أن نضحك معاً.. وكأننا فجأة اكتشفنا عبثية الحياة.
ثم سألني:
- هات أش عندك.
- لا شيء عندي.. أنا أحاول فقط اكتشاف العون الذي يمكنكم تقديمه للناس هذا إذا كنتم حقاً قادرين.
ومرة أخرى عدنا نضحك معاً، ثم قال لي جاداً هذه المرة حدّثني قليلاً عن نفسك.!
وبدأت الكلام محاولاً استلهام وتلخيص المهم من محطات العمر، قبل أن يقاطعني ودون مقدمات، ويسألني إن كنت قد سمعت عن الوجودية وسارتر وعن نبوءات «نوستراداموس»، واستمر يحدّثني عن المصائر التي تنتظر الكون، ثم تطرق لمستشفى العباسية والسرايا الملكية التي كانت هناك ثم فشله في اختبارات القبول في الجيش نتيجة الواسطة.. تحدث حتى ما عدت أدري من هو المريض منا أو المراجع، ومَنْ الطبيب؟
وقبل أن أغادر حدّثني عن الشعور بالقيمة/ وعن الأهداف وعن البدائل المضللة، وعن أشياء كثيرة وتبادلنا أرقام هواتف وعناوين، ثم كتب لي روشتة دواء تساعد في محو الحزن كما يقول، ولم أقل له إني أتداوى بالحزن، ثم أهداني كتاب الاضطراب ثنائي القطب: (Depression and bipolar Disorder) الذي يتحدث عن المغارات السحيقة بين القمم والأودية التي داخلنا والتي تتحكم في حياة البعض، وتحيل حياة آخرين إلى الجحيم
- كم أستخدم الدواء؟
- ستة أشهر.
- يا لطيف.
- على الأقل حتى تعتاد وتتقبل الحياة كما هي!
وغادرت.
وبدأت استخدام الدواء في الحال والذي لم يكن أكثر من مثبطات للوعي.
وبعد أسابيع وجدتني أفقد قلق التوق وحميمة الدهشة من كل شيء، وتلبسني البلادة واللا مبالاة ووجدت شجرة الميلاد التي كانت تضيء داخلي وتهبني القدرة على الإغواء والنشوة والذهاب بعيداً في ما وراء الكلمات وجدتها تخبو قليلاً قليلاً، وجدتها تنطفئ ووجدتني أفقد ميراثي الوحيد: الحزن.
وبدون تردد تخلصت من هذه الأدوية فما من حياة غنية وخالية من الألم وخواء الجنس البشري يأتي من البلادة وليس من الألم.. الآلام هي المحفز لكل هذا الغنى.. ولا منجاة من الوجع إلا عبرنا نحن ووعينا وعون من يحبونا والحياة لم تعدنا يوما أن تكون رحيمة ولا عادلة على رأي غونتر جراس.
«كاي رد فيلد جاميسون» أستاذة الطب النفسي في جامعة جونز هوبكنز ومؤلفة كتاب عقل هادئ تصف ذلك الألم وتلك المعاناة التي عاشتها قائلة:
ولقد مررت بتجارب أكثر ومعاناة أكثر وعرفت عمق المعاناة وشاهدت أروع صفات الناس وأبغضها، وأصبحت أكثر تقديراً للربيع مقابل الشتاء.
وعرفت أيضاً قيمة الرعاية والوفاء وعرفت ورأيت امتداد وعمق وعرض عقلي قلبي، وكم هما هشّان أيضاً.
وتقول: إن الحب هو الجزء الجوهري الاستثنائي من السور العازل للأمواج التي نحمي بها أنفسنا.. إنه يساعدنا على صد الرعب والوحشة وفي نفس الوقت يسمح بدخول الحياة والجمال والقدرة على البقاء.
عمرو العامري - جدة