حثني الزميل الدكتور رفيع بن غازي السلمي الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة الملك عبدالعزيز أن أقرأ ما كتبه في العدد السابع من مجلة مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، وعنوانه (براءة ابن مالك من التدليس وصناعة الشواهد الشعرية)، وهو بحث كتب ردًّا على ما كتبه الأستاذ فيصل المنصور في كتابه (تدليس ابن مالك في شواهد النحو).
والعنوان واضح في بيانه إعلانه المبكر للبراءة قبل أن يقرأ القارئ كلمة واحدة تهديه في سبيل الدفاع عن شيخ العربية ابن مالك، فليس العنوان من مثل: الدفاع عن ابن مالك، أو ردّ القول بتدليس ابن مالك أو ما شابه هذا؛ ولكنه جزم بالبراءة.
وبادر الزميل إلى الحكم على الأستاذ فيصل المنصور فقال «وأيضًا-ألفيت الباحث- كما سيأتي- متعجلا في بحثه، ومتناقضًا، وغير متحر أكثر من مرة، وغافلا عن أحكام لو استطاع الوقوف عليها لأحجم عما تفوه به. وقد انشغل بالتنظيم والتهذيب، واختيار أحسن الأساليب، وأعذب الألفاظ عن مقتضيات البحث العلمي وأصوله. فجاء عمله كبناء زاه منظره، واه أساسه». ولعل من مقتضيات البحث العلمي إرجاء الأحكام حتى يتبين القارئ ذلك حين يقفه الباحث على مواطن الخلل، وأما التنظيم والتهذيب واختيار أحسن الأساليب وأعذب الألفاظ فهي أمور عرفناها في أعمال الأستاذ فيصل فهو حريص عليها حرصه على حقائق البحث حسب ما يهدى إليه، وهو باحث قد يصيب وقد يخطئ، ولكن قارئ ما كتبه لا يستطيع أن يوافق الزميل بحكمه العام بأنه انشغل عن مقتضيات البحث العلمي وأصوله.
ويقفي الزميل بالحكم على عمل الأستاذ فيصل قبل أن يقفنا على ما فيه من خلل، قال «والأهم من ذلك كله: أن الأحكام التي ذكرها الباحث لا يمكن التسليم بها؛ لانتقاض أدلتها، واعتمادها على الظن والاحتمال ولزوم ما لا يلزم»، ولعل مقتضيات البحث العلمي تعاند إصدار الأحكام قبل المحاكمة، مع أنّ وصف أحكام الأستاذ فيصل باعتمادها على الظن والاحتمال هو وصف يصف به الزميل تلك الأحكام لا وصف تتصف به تلك الأحكام، أي إنّ هذا الوصف لا يصلح أن يكون علة يعتل بها الزميل ابتداءً. وكذلك لا يصح اعتلاله بقوله «وأن نشرها يعد قدحًا في أمانة ابن مالك، وتقليلاً من شأنه وشأن النحويين المتأخرين عنه»؛ فالحق أحق أن يتبع، وشأن ابن مالك عالٍ، وجهده محفوظ مشكور، والأستاذ فيصل نفسه بيّن أن ابن مالك لم يعتمد على تلك البيوت في تقرير قاعدة لم تقرر من قبل أو لم يكن لها شواهد من قبل، ولكن الخلل جاء من خالفيه الذين اعتمدوا عليها في الترجيح.
وكذلك يُتوقف في قول الزميل «وستوقع الدارسين في لبس لسببين: الأول: اعتماد مقررات النحو في أكثر الجامعات على ألفية ابن مالك وشروحها من قبل النحويين المتأخرين. الثاني: أن انتساب الباحث لكلية اللغة العربية بجامعة أم القرى، وكون كتابه هذا بحثًا تكميليًا للحصول على درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – يوحي بصحة أحكامه السابقة، ويشعر بالطمأنينة إليها؛ نظرًا للمكانة المرموقة لهاتين الجامعتين في علوم العربية على المستوى العربي والإسلامي». أيعني ذلك أنه يسوغ اتهام ابن مالك لو لم تكن الألفية مقررة ولو لم يكن للأستاذ فيصل علاقة بالجامعتين؟ لعل هذا مخالف لمقتضيات البحث العلمي الذي لا تحده حدود.
ومضى الزميل إلى تفصيل ما انتهى إليه من أمر كتاب (تدليس ابن مالك) وجعل قوله في أربعة مداخل:
«-بيان مراد الباحث من تدليس ابن مالك.
-شهادات العلماء لابن مالك.
-أدلة الباحث على صناعة ابن مالك للأبيات والرَّدّ عليها.
-براءة ابن مالك من صناعة الأبيات»
واستوقفني قول الزميل في مناقشة المدخل الأول عن التدليس: «وهذا كلام فيه نظرٌ؛ لأنه لو كان السامع لا يفهم من إيراد ابن مالك لتلك اللفظة الموهمة إلا الكذب لما خفي تدليس ابن مالك على النحويين المتأخرين عنه». إذ ليس هذا ما يفهم من عبارة الأستاذ فيصل ولا ينبغي له أن يقول مثل ذلك؛ لأنهم لو فهموا الكذب وأدركوا أنه كذب ما كان تدليسًا، ولكانوا صرحوا بذلك، ولكنهم خُدعوا باطمئنانهم إلى سمعة ابن مالك، وكثيرًا ما يخدع الناس بالسمعة. ويكتب الزميل ما يوحي بأن خلافه مع الأستاذ فيصل خلاف في تحرير العبارة.
وينتهي الزميل مبكرًا إلى هذه النتيجة «وعلى كلٍ: تدليس ابن مالك-وفق ما ذكر- غير متعين؛ لأنه يقتضي القطع بصناعة ابن مالك لتلك الأبيات. وليس لدى الباحث أدلة على ذلك، وكل ما ذكره-على ما سيأتي- لا ينهض بذلك». وليس من مقتضيات البحث العلمي القفز إلى النتائج اعتمادًا على ما سيأتي، مع أن قول الزميل إنّ الباحث ليس لديه أدلة غير دقيق؛ فموضوع الكتاب كله هو الدليل، وهو الكلام على مئات بيوت أوردها ابن مالك في كتبه ولا نجدها عند من سبقه، وهو يتفرد في نسبتها للعرب، ولم يأت من بعده من ورثة مكتبته من أظهر لنا أصول تلك البيوت، فأي أصول هذه التي لا تتوافر إلا لابن مالك في حياته وتختفي بعد مماته، أليست دواوين أو كتب لغةٍ اشتراها من الوراقين كما اشتراها غيره؟
واستوقفني قول الزميل «وهب أننا سلّمنا بصناعة ابن مالك لتلك الأبيات فإنه لا يسوغ أن يُنعت ابن مالك بالتدليس، وإنما ينعت بالكذب؛ لأنه صناعته للأبيات تعني الوضع في المتن». وأقول إن هذا التسليم يجعل الخلاف بين الزميل والباحث محصورًا في الصفة التي يوصف بها ابن مالك، فالأستاذ فيصل يصفه بالتدليس والدكتور رفيع يسيغ أن يوصف بالكذب، وأنا مع الدكتور رفيع أرى ابن مالك كذب بنسبته البيوت للعرب.
وأما شهادات العلماء فهي شهادات بما علموا، وليست بمنزهة الرجل عن أمر خفي عليهم وهم بشر يصيبون ويخطئون ولا يلامون على ما لا علم لهم به. واستوقفني قوله عن شهادة لابن حيان «كما لا أظن أنّ الباحث قد اطلع على هذه الشهادة، إذ لو اطلع عليها لعدل عمّا تعجل به بحقّ ابن مالك». ومن المعلوم أن الظن لا يغني عن الحقّ شيئًا، وليس من مقتضيات البحث العلمي البناء على الظنون، وأنا أعذر الزميل لأنه لا يعرف الأستاذ فيصل المنصور الذي أجازت عمله لجنة من علماء العربية لعل زميلنا لا يظن أنهم لم يطلعوا على شهادة ابن حيان.
بدأ الزميل بالدليل الأول من أدلة الأستاذ فيصل وهو دليل تفرد ابن مالك ببيوت لم تذكر من قبله، ويعتمد الزميل في نقض الدليل على أمرين الأول شهادات العلماء لابن مالك، وعدم وجود نص يخدش في أمانته، وكثرة محفوظ ابن مالك، وأنه «ليس كل ما اطلع عليه ابن مالك أمكننا الاطلاع عليه. وبناء على هذا فإن (من علم حجة على من لم يعلم)، و(من حفظ حجة على من لم يحفظ)»، وأن ابن مالك لديه ما ينفرد به عن النحويين، وإحسان الظن بالعلماء. وكل ما ساقه الزميل هنا لا يجدي فشهادة العلماء مقصورة على ما علموا، وعدم وجود النص لا يعني شيئًا فالسكوت عن الشيء لا يلغي وجوده، وأما العلم الذي هو حجة فهو غير الزعم، ولا يكون علمًا ما لم يثبت أنه علم، وإلا وجب أن نصدق الإسرائيليات لأنها علم بما لم نعلمه، وكذلك لا منازعة في أن من حفظ حجة على من لم يحفظ ولكن المهم أن يَثبت أنه حفظ لا أنه وضع. وأما تفرده بما ليس عند غيره فليس دليلًا على صدقه أو كذبه، وهذا أبوالقاسم السهيلي لديه من الأفكار ما انفرد بها ولم نعلمه أورد أبياتًا مجهولة المصدر، وأما إحسان الظن بالعلماء فلا ينقضه الشك بما يوردون فهم بشر قد يعرض لهم اللبس والخطأ والنسيان وغير ذلك، فإن كان الأنبياء يراجعون في أقوالهم فغيرهم أولى.
وأما الأمر الثاني من نقض دليل التفرد فهو أنه تبين لزميلنا براءة ابن مالك من وضع ثلاثين بيتًا، واستعرض البيوت وفي معظمها اعتماد على نسبة نحويين متأخرين هذه البيوت للقدماء، ولكن المتأخرين ربما نسبوا من الأقوال إلى القدماء توهمًا، وقد تبين للدارسين المحدثين شيء من ذلك، ومهما يكن من أمر فإن نفي وضع ابن مالك عددًا من البيوت ليس دليلًا على أنه لم يضع غيرها، والأستاذ فيصل الذي تبين له أن البدري ذكر جملة من البيوت على أنها من وضع ابن مالك وهي ليست كذلك، ولا سبيل إلى نفي القول بوضع ابن مالك إلا ببيان موارد تلك البيوت عند من جاء قبله.
وأما الدليل الثاني (دليل النسبة) أي نسبة البيت إلى مجهول أو إلى طائي، واستوقفني قول زميلنا معلقًا «أقول: هذا الكلام بقسميه من لزوم ما لا يلزم. فبالنسبة للقسم الأول فإن جهالة القائل لا اعتبار لها في ردّ الشاهد النحوي إذا كان الراوي له ثقة عند المحققين من المتقدمين. وهو المتقرر عند المتأخرين».
ولعل هذا ينطبق على نحويي القرنين الأول والثاني؛ ولكن ظهر ترك الاحتجاج بالبيت المجهول القائل منذ المازني ثم المبرد، والعلة في ذلك أن الراوي في القرنين الأول والثاني هو في إطار زمن الاحتجاج بمعنى أنه لو وضع بيتًا لكان محتجًّا به، أما الرواية في زمن ابن مالك فالغالب أنها وجادة لا عن مشافهة، إذ انتهى عصر الاستشهاد بالمشافهة.
أما قول زميلنا «أيريد أن يلزم ابن مالك بنسبة كل بيت أورده في كتبه، ليكون صادقًا في نقله، وليكون كل بيت أورده في كتبه من الشعر الصحيح؟!، أم يريد أن يقنعنا بأن الشعر الصحيح هو المنسوب، والشعر المصنوع هو المجهول».
ولعل في هذا القول مغالطة؛ إذ لا مشكلة في البيوت المذكورة في التراث إن أوردها من غير نسبة لقائليها، وإنما القول في بيوت مجهولة لا أثر لها في التراث ولا عرفها أحد من بعد.
أما محاولة تبرئة ابن مالك التي حشد لها زميلنا طائفة من الحجج فإنها محاولة مشكورة مقبولة من بابها العاطفيّ ولكنها لا طريق لها إلى العقل، ولذلك جاءت الخاتمة بنتائج غير معتمدة على براهين قوية، وأقوى ما تضمنه البحث إثبات نسبة بيوت جعلها الأستاذ فيصل من موضوعات ابن مالك كما تهيأ له، ولكن هذا الإثبات ليس بناقض للقضية التي ستظل إلى أن تنسب هذه البيوت نسبة صحيحة.
- الرياض