(أ)
حول مسألة الوجود العربي المادّي ومرجعيّة نشوئه إن كان استناداً لعرقٍ أو استناداً للغةٍ أو استناداً لإقليمٍ، فإنّه ينسب إلى النبي العربي عليه الصلاة والسلام مقولاتٍ تقطعُ الرأيَ في هذه المسألة بتقديم استنادٍ على آخر:
) «إنّ العربيّةَ ليسَتْ لأحدكُم بأَبٍ ولا بأُمٍّ، فمَنْ تكَلَّمَ بالعربيَّةِ فهُوَ عَرَبِيٌّ».
) «ما بالُ دعوى الجاهليّة، دَعُوهَا فإنَّها نَتِنَة»، وهل العصبيّة الجاهليّة شيءٌ آخر غير العنصريّة القميئة.
وكلا المقولتين المنسوبتين وغيرهما من المقولات والأفعال والوقائع النبويّة لا تتعارض مع مدلولات لفظة (العربي-عرب-عربيّة) في المتون اللغويّة والمتن القرآني، كما يأتي توضيحه، فأنت إن ذهبت نحو الأصل في التسمية ووردتَ ماءَنا في بطلان أوهام العرق لنفيت عنك استنادات العنصريّة، وأنتَ إذا خالفتنا في موردنا فإنّك مطالبٌ بالالتزام بالمرجع الديني الذي تحتكم إليه، فكم هي نصوص المتن القرآني التي لا تجيز الجاهليّة والعنصريّة ولا تبيح التفاخر تحت أسباب الدم؛ فمن مفردات التاريخ الإسلامي، مفردتا: (الفارسي والحبشي)، وهما مسمّيا حضارتين متجاورتين للجزيرة العربيّة، كان من رجالهما من اعتُبر من الصفوة المقرّبة من النبي العربي عليه الصلاة والسلام ديناً ودُنيا، والمقصدُ: سلمان الفارسي وبلال الحبشي. وهو أحد المعاني الواقعية لآية الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
وحينما يرد في المتن القرآني مصطلح (عربيّاً)، فإنّه يأتي مقروناً بالقرآن واللسان، وكلا السياقين على دلالة: (اللغة المفهومة) بالنسبة لمن أُنزل عليهم المتن ومن حولهم: (قرآناً عربيّاً لتنذر أمّ القرى ومن حولها)، ولم تُذكر اللفظة على دلالة العرق/الدم/النسب/العصب، بل ذُكرت في المواقع جميعا على دلالة اللغة: (قرآناً عربيّا، حكماً عربيّاً، لسان عربيّ مبين، لساناً عربيّاً)؛ فنحن إذ نردّ اللفظة لمرجعٍ لغويّ فإنّنا لا نكون قد عارضنا السياقين القرآني والنبويّ في الارتكاز الأساس على اقتران تسمية العربية باللسان وليست بالدم، (أو ما يمكن توصيفه بالمواطنة اللغوية- على أساس اللغة)؛ وهو اشتراط بدأت عديد من الدول الغربيّة اعتماده كأساس لمنح الجنسيّة، بعد أن كانت لا تشترط اللغة مخافة أن يقع هذا الاشتراط في التمييز، حتّى بدا لهم أنّ اللغةَ لا تضرّ المواطنة المدنيّة العادلة، وأنها جزءٌ أصيلٌ من المواطنة ولا تتقاطع مع أيّ شكلٍ من أشكال التمييز، بل هي مكمّلة للحرية والمساواة في شروط المواطنة.
والأصلُ في التسميّة (الاعتباطيّة: فالألفاظ تشاع وتغلب على الاعتباط وليس على علّة في الألفاظ عينها) –أزعم- نشأ بسبب تقارب اللغات المنتشرة في الجزيرة العربية حتّى أطلق ساكنو الجزيرة على اللغات التي يتداولونها والمفهومة بالنسبة لهم مسمّى (عربيّة) بمعنى: (ظاهرة، واضحة)؛ أمّا اللغات التي لا يفهمونها فسُمّيت على المجاز (عجم: عدم اتضاح المعنى)، فالعربية والأعجمية هما مسمّيان مجازيان نسبة للناطق والسامع: (أنا والآخر)، من جهة الأقوام التي كانت تفهم لغات بعضها بعضاً فتسميها عربية، وأخرى لا تفهمها فتسميها أعجمية؛ وهذا الاستناد اللغوي مرجعه لغة قُريش التي وصلت إلينا بوصفها اللغة الأكثر وضوحاً وانتشاراً (الأكثر عربيّةً أيْ فصحاً وإظهاراً) بين أقوام الجزيرة العربيّة المتقاربة لغاتها فيما بينها، التي نشأت تلقائيّاً واعتباطاً كأساس في نشأة اللغة، وأيّ لغة.
(ب)
ونحن إذا عدنا لبعض المعاجم التي تعتبر (العرب: جيلاً من الناس) نجد الخطأ الذي يقعون فيه حينما يحوّلون المجاز إلى أصلٍ، ويلحقون به عدداً كبيراً من القبائل والأعراق الموجودة في الجزيرة ومن حولها إلى مسمّى واحد يوحي بأنّه عرقٌ واحدٌ وليس مسمّى لمجموعة أقوام انصهرت فيما بينها وغُلِبَ على مسمّى انصهارهم مصطلح (العرب) بناءً على تسميتهم للغة التي يتحدّثونها بمسمّى (عربيّة)، فحينما يسمّي ابن منظور معجمه (لسان العرب) ويقتصره على اللسان العربيّ فإنّك لا تستطيع أن تجزم أنّه قد أدخل كلّ اللغات التي تكلّمها الأقوام التي يطلقون عليهم مجازاً مسمّى عرب؛ وهو في مادّة (عرب) يقول: «عربٌ جيل من الناس معروفٌ خلاف العجم»، وفي هذا خطأٌ لأنّ العجمَ ليس جيلاً من الناس، والتضاد وقَعَ على دلالة اللفظتين (الوضوح والغموض/ العرب والعجم)، على الرغم من إقراره بعلمه بوجود اختلاف في التسميّة وقد أشار إليه، حينما ذكر أنّ سبب التسميّة عائد إلى (يعرب بن قحطان) أو إلى (المكان الذي نشأ فيه ولد اسماعيل: عربة من تهامة)، ثمّ أخيراً وصل إلى الأصل في الدلالة قبل المجاز: «أعرب وعرب أي: أبان وأفصح وبيّن...»
أمّا في مقاييس ابن فارس، فإنّ: (العين والراء والباء) على أصول ثلاثة: (الإنابة والإفصاح، والنشاط وطيب النفس، فساد في جسم أو عضو) وليس في الأصول أنّ لفظةَ العرب مرتبطةٌ بدم، بل علّل التسميّة بسبب اللغة ولم يحسم، قال: «فأمّا الأمّة التي تُسمّى العربَ فليس بعيداً أن يكون سُمّيت عرَباً من هذا القياس، لأنّ لسانها أعرب الألسنة». وفي المقاييس: أنّ (العين والجيم والميم) على أصول ثلاث: (سكوت وصمت، وصلابة وشدّة، وعضّ ومذاقة)، وجميعها لا ترتبط بعرق ودمٍ، وقد تمّ تسمية جميع اللغات غير الناطقة (باللغة المفهومة) لأصحاب هذه اللغة (بالعجم)، وهنا نفهم قولهم العرب خلاف العجم على دلالة مجازٍ في اللغة فقط، ولا يمكن عقلاً ونقلاً أن تكون على دلالة الدم/العرق؛ فالعجم مسمى أطلق على العديد من الأقوام والأعراق الأخرى فقط لأنّ لغتهم غير مفهومة لصاحب اللغة التي ظهرت فيها هذه اللفظة: (عجم).
(ج)
ونحن حينما نضع هذا الرأي فذلك استناداً إلى حُجُجٍ لغويّة، وأخرى مادية تاريخية، واستدلالات منطقية تفسد على القائلين بالعنصريّة حسماً تاريخيّاً ولغويّاً وفوق ذلك دينيّاً، لطالما، وهذه الغرابة، يقعون في العنصريّة بينما هم يقرّون ويدّعون عدم انحرافهم عن أصول الدين:
أولاً: عدم تعارض الرأي مع سياق المتن القرآني، وسياق المقولات والوقائع المنسوبة تاريخيّاً للنبي عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: اتّفاق اللغويين والمؤرّخين على وجود اختلاف حول أسباب تسمية (العرب)، فإن كانت التسميّة لجماعة من الناس (قوم) يربطهم دم وعرق وعصب، فإنّنا لم نكن لنجد هذا الاختلاف، فمجردّ قولك: إنّ العربَ خلافُ العجم أو العكس، فإنّك أفسدت على نفسك حُجّةَ أنّ العربَ عرقٌ ودمٌ لأنّ العجمَ ليس قوماً، بل تسميّة مجازيّة لأقوام وأعراق عدّة يتحدّثون بلغاتٍ عديدة غير مفهومة بالنسبة للناطقين باللغة التي أسماها الناطقون بها عربية على دلالة الوضوح والظهور والإبانة.
فحينما يقولون: التسمية عائدة على يعرب بن قحطان، فماذا عن العدنانيين، وماذا عن الأقوام الأخرى التي لا تنتسب إليه وتُعدّ من الأقوام التي تدخل في مسمّى (عربيّة)، علماً بأنّنا نتبنّى أنّ قحطان وعدنان هما أسماء توصيفيّة لطريقةٍ في الحياة: (طريقة البداوة والعيش في الصحراء وهم قحطان من القحط) و(طريقة الفلاحة الزراعيّة وهم عدنان من عدن)؛ وحينما يقولون (عربة) فماذا عن أهالي المناطق الأخرى، وفي الحالتين هي تسميةٌ على المجاز وليس على الدم، فليس كلّ (الأقوام العربيّة) من يعرب، ولا كلّهم سكنوا عربة.
ثانياً: الدلالات اللغويّة للفظة: (عرب) كما أوضحنا، والتي تتوافق مع نفي الدم/العصب/العرق، وتذهب لتأكيد دلالة اللسان واللغة.
لساناً عربياً، أيْ: لساناً مفهوماً وظاهراً وواضحاً لكم.
أعجمياً، أيْ: غير مفهوم لكم، (لكنه في طبيعته مع الناطقين به لا يكون أعجمياً)
أما (الأعراب) فهم -مرة أخرى- نعود لأصل المسمّى على دلالته اللغوية: هم أولئك الأقوام الذين قد لا يجمعهم عرق ما، لكنهم سكنوا في العراء في أماكن واضحة وظاهرة (أيْ أماكن عربيّة مكشوفة)، وكانوا في مساكنهم أعراباً لا يسترهم شجرٌ ولا يخفيهم بُنيان.
وأنت من هذا التقديم والاستنادات التاريخيّة واللغويّة والدينيّة، لك أن تتساءل: على ماذا يستند العنصريّون الفارغون من الحُجّة والغارقون في جاهليّة الدم في استنادات عنصريّتهم ومفاضلتهم على شعوب العالم؟
(د)
لماذا نذهب بهذا الرأي الآن في نشوء المسمّى؟ أزعم أنّي لم أكن لنشر هذه الملاحظات والاستنادات إن لم تستدعي الضرورة الواقعية المأزومة بخطابٍ طائفي (كنّا في مقالات عديدة كتبنا عن مخاطره) وآخر عنصريّ يُفاضل الناطقين بالعربيّة على غيرهم ويدّعي أنّهم دمٌ فوق الدماء، وهو ما يلزمنا نقد ادّعاءاته مخافة أن يتمدّد هذا الوهم، الذي ينتج جاهلية وعنصرية لا تتطابق مع مفردات العصر وسياسات الدولة ومواد نظام الحكم فيها، وقيم الإنسان المتطورة، وتخالف المتون التاريخيّة والدينيّة واللغويّة.
- جدة