1-الكتابة بأبجدية الحلم:
في روايته الملحمية (مائة عام من العزلة) يصوِّر ماركيز حلماً تراءى للكولونيل أوريليانو في منامه، فقد رأى أنه يدخل وحده بيتاً مهجوراً جدرانه بيضاء، وكان في أثناء هذا الحلم يشعر بأنه شاهد هذا الحلم نفسه مِراراً في ليالٍ سابقة؛ ولكنه لا يستطيع أن يتذكره حين يستيقظ، بل فقط عندما يحلم به مرة أخرى وهو نائم!.. أي أن من سمات هذا الحلم العجيب أنه يتبخر من ذاكرتك فور استيقاظك، فلا تتذكر أنك حلمت به سابقاً إلا وأنت نائم حين تحلم به من جديد!
والسؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ هنا هو: كيف استطاع ماركيز اكتشاف هذا النوع الخاص جداً من الأحلام؟ وكيف استحضر هذا الحلم العصيّ على الوعي المتيقظ؟ أكان يكتب عدداً من مقاطع روايته وهو نائم؟. . قادماً من الحلم يكتب لنا ماركيز إذن، ماذا عن عبدالله الغذامي؟ كيف يكتب عن الرواية هذا الناقد الألسني القادم من مدن الشعر، والمغتسل ببحوره لآماد طويلة؟
2-الرواية.. كائن لا تُحتمل خفته:
لعل محور الرواية هو أقل محاور الاهتمام النقدي تميزاً عند الغذامي، ومن بين كتبه المتنوعة ليس هناك حتى الآن كتاب خاص بالرواية، وفي كتابه الجهنية يعِد القراء بصدور كتاب له عن: الأنساق الثقافية في السرديات النسائية؛ ولكنه لم يصدر حتى الآن، ومن هنا فإن مادة هذا المحور مستمدة من مقالاته المتفرقة، ومقابلاته الصحفية، ومن الواضح أن براعة الغذامي المعهودة في التنظير وتبْيئة النظريات النقديات المعاصرة، وقدرته التحليلية المشهودة على تشريح النصوص الشعرية، وتعامله الواعي والذكي مع التراث العربي الأدبي والنقدي المنبئ عن اطلاع واسع وفهم حصيف.. كل هذه الجوانب من الإجادة والتفوق ستتضاءل كثيراً في تناوله النقدي للروايات، وسيفتقد قارئه تلك الدقة في التحليل والحكم، وسيصادف عدداً من الأحكام المعمّمة، والتحليلات النقدية المتسامحة، وحين تقرأ مثلاً حديثه عن رواية «الحزام» لأحمد أبو دهمان ستجد أنه أقرب إلى الإشادة الثقافية العامة البعيدة عن التحليل الفني الدقيق للآليات القصصية، وإذا قارنت ما كتبه عنها بما كتبه غازي القصيبي؛ فستلحظ أن القصيبي كان أدق في مقاربته لها، فقد رأى أن العمل - من الناحية الفنية - لا يرقى إلى المستوى الذي توقعه منه، ويتكرر مثل هذا الحديث الثقافي العام عند الغذامي مع مجموعة عبدالله الناصر القصصية: حصار الثلج.
أمّا الشاهد الأهم من هذا وذاك فهو أن الغذامي يعزو سبب نجاح أي رواية إلى ما يسمّيه: «السواليفية»؛ أي الحكي القصصي، وقد كرر هذا الرأي في لقاء صحفي، ويبدو أن محاوره طامي السميري لم يقتنع بهذا التفسير الأحادي، ولهذا عاد فشاكسه بسؤال آخر عن الأعمال الروائية التي لا تلتزم بهذا المعيار التقليدي في بنائها؛ كما هو الحال في روايات ميلان كونديرا، وهنا يجيب الغذامي بأنها تجارب خاصة بثقافات أمم أخرى يصعب تطبيقها لدينا، ثم يعود لتأكيد أهمية الأساس «السواليفي» للرواية.
ربما جاء تركيز الغذامي على عنصر «السواليفية» في الرواية من اهتمامه الخاص بالحكايات الشعبية، والمرويات التراثية التي تميل إلى التبسط في الأسلوب، والمباشرة في التعبير عن الغرض التعليمي للحكاية، وغالباً ما تكون الحكائية المتبسطة هي أهم سمة في مثل هذه الأعمال؛ لكن هل الحكائية هي السمة الأبرز في الرواية المعاصرة أيضاً؟ وإذا كان الاختلاف في طبيعة بناء الرواية هو ما يؤدي إلى تعدد المداخل النقدية إليها؛ فهل يمكن توحيد هذه المداخل المتعددة في مدخل واحد، وهو: رصد السواليفية فيها؟
نعم، قد ينطبق هذا الأساس على الحكاية بمفهومها العام، وبنوعيها: التراثي، والشعبي، والتي هي محط اهتمام كبير من الغذامي؛ لكن يصعب الاعتماد على هذا الأساس في تقويم فن الرواية الأكثر تعقيداً وتنوعاً وتركيباً، فالأنماط الروائية - وبخاصة في الفترة الأخيرة - لا حصر لها، ومنها هذا النمط الروائي الغريب الذي يفضّله ميلان كونديرا حيث تتعانق في رواياته اللغة الشعرية المحلقة مع البناء الذهني - وليس الحكائي - لشخصيات الرواية، وحين تقرأ له تشعر بأنك أمام شاعر فيلسوف يحكي قصصه بقدر غير قليل من الترف الذهني الممتزج بالكتابة التجريبية، ولأسلوبه هذا المعجبون به، ولرواياته رواج كبير، ولها بلا ريب نكهة مميزة هي أبعد ما تكون عن «السواليفية». ويبدو أن سبب تضاؤل هذا المحور النقدي عند الغذامي أن باعثه إلى الاهتمام بالرواية هو في الأساس باعث ثقافي؛ إمّا لرصد الأدب النسوي المعاصر وعلاقته باللغة وأنساقها المضمرة، أو لسبر الأنساق الثقافية العامة المؤثرة في المجتمع التي تكشفها الروايات المحلية، بينما في الشعر كان هناك باعثان يتنازعان الغذام ي ويسوقانه إليه، وهما: الباعث الفني، والباعث الثقافي، كما أن اهتمامه بالشعر وبالتطورات المستجدة فيه سابق - فيما يبدو - لاهتمامه بالرواية، ومن هنا كانت أحكامه النقدية في الشعر أدق وأعمق، وأكثر قدرة على الفرز بين اتجاهاته المتنوعة.
3- الغذامي وشباك التذاكر:
يهتم عبدالله الغذامي اهتماماً كبيراً بالرواج وردة الفعل لقياس نجاح العمل الأدبي؛ لأنه ينظر إليه كواقعة ثقافية، وليست فنية، فهو لم يعد يهتم - كما يقول - بالنصوص في ذاتها، بل بالأنساق المحيطة بها، وفي كتابه: حكاية الحداثة يؤكد أن العلامة البارزة للحدث الثقافي الرمزي هي: أن يلاقي رفضاً معلناً، وتزداد رمزيته بمقدار قوة هذا الرفض، ومن هنا يرى أن العمل الناجح هو الذي يستطيع استنفار النسق المهيمن، بحيث يدفعه إلى الاحتشاد والتجييش، مما يعني أن العمل ضرب على وتر حساس جداً للنسق، والغريب أن ردة فعل النسق المندفعة ضده هي بالضبط ما يحتاجه هذا العمل للبقاء والخلود !
ولكنّ هذا الربط الآلي بين تميز العمل، وقدرته على مشاغبة النسق هو ربط تسويقي يجعل الناقد المتابع أسيراً في أحكامه للحظة الراهنة ولمنطق العرض الآني المبهِر، وقد يغفل عن تقدير أعمال أهمّ وأعمق لم تستطع - لسبب فيها أو في توقيتها - أن تشاغب النسق، فتلفت النظر بقدر أكبر إليها، وتاريخ الآداب والفنون العالمية يسجِّل أن هناك الكثير من الأعمال الأدبية والفنية المتميزة مرت مرور الكرام في عصرها، ثم جاء التقدير العالي لها بعد ذلك في العصور اللاحقة، ويكفي أن أضرب هنا ثلاثة أمثلة من أدبنا العربي القديم لأعمال لم تُقدّر قيمتها الحقيقية إلا بعد أزمنة متطاولة، وهي: رسالة الغفران للمعري، وطوق الحمامة لابن حزم، وألف ليلة وليلة.
كما لم يخلُ أدبنا المحلي من مثل هذه الأعمال المتميزة جداً التي لم تستقطب اهتماماً قرائياً يوازي قيمتها الفنية العالية، ولعلي أستحضر هنا مجموعة عدي الحربش القصصية: حكاية الصبي الذي رأى النوم، إذْ ما أزال أتذكر حتى الآن الإحساس العالي بالدهشة الذي شعرت به وأنا أقرأ لكاتب سعودي لديه كل هذا النضج الفني، ثم لا يكون لعمله صدى يوازي قيمته؛ مع أن هذا القاص يمتلك - برؤيته الثقافية العميقة، وصياغته القصصية المدهشة - كل الأدوات اللازمة للروائي الناجح؛ وإذا كنت أتمنى أن ترتقي لغته بقدر أكبر لتصل إلى المستوى المتوقع من كاتب يجمع هذه البوتقة المتكاملة من أساليب التكنيك القصصي البارع؛ فإن هذا لا يمنعني من أن أقول: إن روائياً كبيراً ينتظر الخروج من قمقم هذا الصبي الذي رأى النوم، وهو قادر - بما يمتاز به من حرفية كبيرة، ومن اطلاع واسع على التراث؛ وبخاصة التراث الصوفي - على إعادة قراءة الحكايات التاريخية والمحلية، وصهرها في عمل ملمحي مبهِر، والخلاصة: أن شهرة العمل الروائي الناتجة عن مشاغبته للنسق ليست معياراً دقيقاً للحكم على جودته، بل لعلها تستثير في الناقد كل قرون الاستشعار النقدي عند قراءة العمل؛ حذراً من أن يكون أسيراً للراهن والمؤقَّت.
4- موت المؤلف.. حياة الروائي:
في تقييمه النقدي للروايات المحلية يتأثر عبدالله الغذامي شيئاً ما بالخلفية الفكرية والثقافية للروائي، ولعلي أستشهد هنا بمثالين بارزين على هذا، فالغذامي لأنه يقدِّر كثيراً غازي القصيبي رحمه الله لم يُقر بالفشل الفني الذريع الذي سقطت فيه «رواية» العصفورية؛ باختناق حركية الأحداث فيها، وباعتمادها على حوار طويل وممل بين مثقفين غرضهما الاستعراض بمعلوماتهما، وكأننا أمام موسوعة معارف لا أكثر، هذا بالإضافة إلى تناثر خيوط السرد الروائي فيها دون أي بؤرة حكائية تجمعها، فليس هناك أحداث متصلة، هناك فقط ذكريات (مفترَضة) يسردها البرفسور بشار الغول على الطبيب النفسي الذي لا دور له سوى الاستجابة لرغبات البرفسور، وطرح الأسئلة المفصّلة على مقاسه، وأكثر عبارة تتردد في العصفورية هي: (وهذا ليس موضوعنا.. موضوعنا أن...)، وهي عبارة كاشفة - بدلالتها، وتواترها - عن التفكك، وهذا النص العصفوري في نظري هو نص سردي أقرب ما يكون إلى طبيعة المقامات المعاصرة؛ مثل: حديث عيسى بن هشام للمويلحي، وبدلاً من التأنق اللفظي المعهود في المقامات هناك تأنق معرفي واستعراض ثقافي وفكري، وبين جميع كتب القصيبي ليس هناك كتاب يجمع آراءه المتفرقة في الشعر، والأدب، والتاريخ، والفكر، والسياسة كما يجمعها هذا الكتاب.
فماذا كان رأي الغذامي في هذا العمل؟ لقد رأى أن العصفورية رواية نموذجية ما بعد حداثية، وأن المعلومة هي الشخصية السردية الأبرز فيها!.. وراح يدافع عنها بحرارة مستنِداً إلى أن فن الرواية بلا معايير؛ لأنه فن حديث النشأة؛ بخلاف ما عليه الحال في الشعر والمسرح، وأن نشأته ارتبطت بالرومانسيين الداعين إلى الثورة والتحرر، فهو فن الحرية واللانموذج! وفي مقالة أخرى متأخرة رأى أن العصفورية تغرِّر بالقرّاء السذّج الذين ينخدعون ب بساطتها الظاهرية، مثلما أن العابرين لا يدركون من ماء البحر سوى ملوحته، بينما يُخبئ هذا الماء عذوبته، فلا يُذيقها إلا للعارفين المتبصرين !
في المقابل لم يستسغ الغذامي تردد اسم تركي الحمد ضمن الروائيين السعوديين؛ ولم يجد في ثلاثيته التي صدرت في التسعينات أي قيمة فنية، ولم يُقر بأثرها «التاريخي على الأقل» في نشوء المدّ الكبير للروايات السعودية التي أعقبتها، وما كان لها من دويّ كبير في المجتمع المحلي آنذاك، وهو الدويّ الذي دفع القصيبي نفسه إلى التنويه بها في كتابه: حياة في الإدارة، صحيح أن موقف الغذامي يستند في جانب منه إلى سبب فني، وهو ضعف الصياغة الفنية في روايات الحمد بعامة؛ غير أنه لم يلتفت إلى أنها أفضل من «روايات» القصيبي على الأقل في العنصر الأهم من عناصر الفن الروائي، وهو: البناء الدرامي للأحداث والحبكة المتماسكة للقص، ولك أن تقارن في هذا العنصر تحديداً بين عصفورية القصيبي وشرق الوادي للحمد، وبصرف النظر عن تحفظنا على الإخفاقات «الموضوعية» المتنوعة، وعلى الوهن الأسلوبي عند الحمد الذي يقترب في مواضع كثيرة من أعماله من صياغة الهواة المبتدئين؛ فإنه يظل من الزاوية الحكائية البحتة أقرب إلى هذا الفن من القصيبي، ومن المفارقة هنا أن الغذامي الذي كان يقول مع القصيبي: إن فن الرواية بلا معايير هو نفسه الذي يحاسب تركي الحمد بناء على حزمة كاملة من المعايير؛ بدءاً من المعيار اللغوي والمقاييس الأسلوبية الصارمة، وهي المفارقة التي تكررت كذلك في تحليل الغذامي لرواية رجاء الصانع، فقد انتقد كثرة الكلمات العامية، والأجنبية فيها؛ مع أن هذه الظاهرة اللغوية نفسها ماثلة بوضوح في العصفورية؛ ولكنه مرّ عليها دون أي انتقاد لها.
ما تفسير هذا الموقف من الغذامي؟.. هنا تأتي منزلة الروائي لتجيب عن هذا السؤال، فالمواقف الإنسانية والوطنية لغازي ترجح به في أي ميزان تضعه فيه مع تركي الحمد، وإذا كان الحمد بدأ حياته يسارياً حالماً؛ فإنه انتهى بعد ذلك إلى ما يشبه الانعزال الشعوري والفكري عن مجتمعه.. ودراساته ورواياته تُنبئ عن هذا الموقف المغترِب، ولا يروق مثل هذا الموقف للغذامي صاحب التوجه الإصلاحي والمتفائل كثيراً بمجتمعه وطاقاته المخبوءة، وستندّ عن الغذامي بعد ذلك بعض التعبيرات التي تدلّ على عدم ارتياحه لهذه الفئة اللامنتمية من الكتّاب المتأثرين بالنزعة الوجودية العدمية، ومن أشهرهم: الكاتب المصري أنيس منصور، فللغذامي تعليقات قاسية في تويتر يسخر فيها من كتاباته، وهو ما يؤكِّد عدم ارتياحه لهذا الصنف من الكُتّاب، وفي تحليله النقدي المتميز لرواية: رقص لمعجب الزهراني ستلحظ أن الغذامي لم يكن مرتاحاً لنزعتها الوجودية المغرِقة في السوداوية واستحضار الألم.. الألم من حيث هو رؤية فلسفية شاملة للحياة، وليس مجرد وقائع عارضة فيها، ولهذا رأى الغذامي أن هذا العمل أقرب إلى طقوس الختان العلني؛ حيث يُكشَط الجلد عن الجسد، فتسيل الدماء.. الكثير من الدماء رغم عنوانها المخاتل في المفارقة مع مضمونه، وهو: رقص!
والواقع أن النزعة التشاؤمية واللامنتمية عند كثير من الكُتّاب العرب المتأثرين بالثقافة الفرنسية ظاهرة لافتة وتستحق الدراسة، ولكي نكمل أحجار الرقعة سنقول أيضاً: إن هذه النزعة قد تكون أحد أسباب تغير موقف الغذامي من أدونيس؛ وبخاصة بعد استيعابه للمنحى السوريالي اللاعقلاني الممزوج بالدروشة الصوفية الباطنية عنده، هذا بالإضافة إلى مشكلة أخرى عند أدونيس، وهي: نظرته الدونية للجماهير والمجتمعات العربية، المستنِدة إلى منظور: دكتاتورية الأقلية الذي يمتح عنده من منبعين: خلفيته الاجتماعية الإثنية، وتعالي النخبة المثقفة، لقد أدرك الغذامي بعد فترة أن هذه النماذج من المثقفين العرب اللامنتمين لا يمكن أن تكون أمثلة تُحتذى لتحقيق النهوض الحضاري للمجتمعات العربية.
وامتداداً لتأثر أحكام الغذامي على الرواية بموقفه من الروائي يُلحظ دعمه للروائيات وتعاطفه الكبير مع تجاربهن - التي تتضمن الكثير من الإخفاقات - بقدر لا يتحقق مع الروائيين، ولهذا صلة بالتوجه الكلي عند الغذامي نحو دعم المرأة بعامة، والأدب النسوي بخاصة، نعم.. هناك نماذج روائية نسوية ناجحة؛ ولكنها قليلة جداً؛ بسبب غلبة النبرة البكائية الشاكية المنحصرة في التعبير عن الهموم الفردية للمرأة على أعمال الروائيات، وقلما تجد فيها عملاً يعبِّر عن الإنسان بكلّيته داخل المرأة والرجل معاً، وقد حاولت رجاء عالم أن تصنع هذا؛ لكن بأسلوب تجريبي موغل في الرمز والضبابية.
5- روايات التداخل الزمني:
أمّا الرواية التي احتفى الغذامي بها، وكتب سبع مقالات متوالية عنها؛ فهي رواية: بنات الرياض لرجاء الصانع؛ ولكنه ركز كثيراً على المنحى الثقافي في التحليل، فتناولها بوصفها حدثاً ثقافياً راصداً ردود الفعل عليها، ومستنبطاً الدلالات النسقية منها، وفي تحليلاته لفتات نقدية ذات بعد فني واضح؛ مثل حديثه عن المستويات اللغوية المتوازية في الرواية؛ ولكنه لا يصعّد حديثه عن هذه المستويات؛ لكشف ميكانزمات الحركة السردية في الرواية، بل يجيّرها دائماً لصالح التحليل الثقافي للأنساق، وهو الموضوع الذي يستأثر باهتمامه الدائم منذ ما يقارب عشرين عاماً.
لعل هذه الرواية الفريدة لرجاء الصانع من الروايات النسائية النادرة التي استطاعت أن تدخل إلى فنّ الرواية من منطق القوة: قوة الشخصيات النسائية فيها، وقوة الأسلوب ولغة الخطاب، وأخيراً قوة التكنيك الروائي الجريء في بنائه السردي، وفي مزج زمن الكتابة بزمن القراءة، والخلط المتعمد بين العالم الروائي والعالم الواقعي الذي يجعل القارئ يشعر بأنه وسط حلم، وليس في رواية، وهو التكنيك الذي نجحت في بنائه أيضاً الكاتبة اللبنانية علوية صبح في روايتها: مريم الحكايا، وفي كلتا الروايتين الناجحتين ستجد الشخصيات تتسرب من عالمها الروائي، وتندسّ مع القارئ في عالمه الواقعي؛ لتحاوره، وتطلب منه أن يفكِّر معها في إيجاد بعض الحلول لفكّ عقدتها الروائية، وهكذا نشعر أننا نقابل من جديد « ست شخصيات تبحث عن مؤلف « كما أبدعها الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي بيرانديلو؛ حيث تذوب الحدود الفاصلة بين الخيال والواقع في تفاعل إبداعي ربما يوحي للقارئ بأنه هو نفسه قد يكون مندمجاً في أداء دور ما ضمن رواية أو مسرحية لم يقرأها بعد!
د. سامي العجلان - الرياض