تقول الفنانة نجلاء السليم في التعريف بفلسفة معرضها الجديد الذي أقامته في حي البجيري بالرياض بعنوان (شجار) (ليس لأعيننا ملاذ، ولا لرؤيانا متّسع غير أن تطلَّ أرواحنا عبر أفق يغرب، يترك للشجر فرصة معانقة ظلاله ولخضرته جمْرة الغروب وثياب الشفق، نتسلّل بأبصارنا خفية بين أغصان عارية إلا من ظلال مواسمها، متناثرة هنا وهناك.
وتكمل حكايتها بين الكلمة واللون والخطوط «لكل هذه الأشجار سيرة الجبال التي يقتلها الجفاف.. ووثيقة الوفاء في زمن الخيانة.. وتميمة الصدق في رقبة الكذّابين... تلوّح بأصابع أغصانها للفراشات التي لم تعرف بعد مكيدة النار فتصدقها النداء.. وتظلّل قبرًا قديمًا لا يُعرف صاحبه.. وتترك في أغصانها متسعًا لأعشاش العصافير المسالمة».
تلك هي الفنانة نجلاء السليم التي ولدت في رحم مرسم والدها وتذوقت طعم مذاقات مدارس الفن من يد والدها الفنان محمد السليم، كانت طفولتها الفنية ليست ككل حالات الرغبة البريئة التي تعودناها من كل الأطفال عند ممارستهم الرسم أو التخطيط (والشخبطة) الفطرية بقدر ما كانت أكثر حذرًا من أن تخطئ فهي أمام معلم حتى لو لم يكن يعلم بما تبدعه بتلقائيتها النابعة من موهبة فطرية.
كبرت وكبر معها الهم التشكيلي وبدأت تتلمس خطواتها بدقة وتتلقى التوجيه تارة وتارة أخرى تلتقطه من بين انامل والدها خلال ممارسته إبداع لوحة أو نحت قطعت خشب أو تشكيل طبنة في محترفه الذي لا يهدأ إلى أن شبت عن الطوق وأصبحت على مشارف المنافسة مع من سبقوها التي حققتها بعد عودتها من الدراسة في الولايات المتحدة.
تأثر ملزم ومحاولات الخروج
لا شك أن تأثر أي فنان بآخر خصوصًا في مرحلة البدايات أمر متعارف عليه ولا يمكن لأي فنان مهما ارتفع سقف شهرته إلا ومر بهذه التجربة أما من خلال اطلاع أو بتلقي دروس أو علاقة مباشرة مع من تأثر به، إلى أن يصل الفنان الموهوب إلى تحديد مساره بناء على حجم صدق موهبته وإمكانية تطويرها وتقبلها لهذا التطوير، فكثير من الفنانين توقفوا وآخرين ساروا في طريق الفن برداءة في سيل تنفيذ أعمالهم الفنية نتيجة خلوهم من الموهبة وبقائهم على مساحة الهواية.
وإذا عدنا إلى مسار خط الفنانة نجلاء السليم لوجدنا أن في أعمالها الأولى التي قدمتها من خلال مشاركات في معارض جماعية لم تكن تكشف إلا جزءًا مما يمكن معرفته عمّا يمكن أن تكون عليه ولهذا كانت لوحاتها أقرب بل أكثر تأثرًا بوالدها وهذا أمر لا خلاف عليه يتفق معي الكثير من النقاد ممن يرغبون في أن تؤكد مدرسة والدها مثلما أكَّد أجيال الفن التكعيبية والسريالية طبقًا لأسلوب بيكاسو وسلفادور دالي.
ومن الجميل أن ما كانت تتلقاه من (كلمات) الآخرين ممن يرون في مثل هذا التوجه تقليدًا يعيق تجاربها وتطوير الأسلوب فتصبح تكرارًا للآفاقية أو الصحراوية المدرسة التي وئدت في رحمها. كتابة كانت أو من خلال لقاءاتهم بها في المعارض الجماعية لم تكن الفنانة تعيرها أكثر من إعجابها بذلك التأثر لكنها تخفي الكثير مما لم تصفح عنه لهم أو للجمهور الذي أصبح يتابعها ويتوقع أن يرى في مشاركاتها الجديدة تكرارًا أو مشابهة لما سبق أن قدمته.
خروج من عباءة التأثر إلى الخصوصية
لم تكن أعمال الفنانة نجلاء غريبة بالنسبة لي ولا ما كان البعض يتوقعه من تقليد أو مقاربة لأسلوب والدها بقدر ما كانت أرى أبعد من ذلك وأكثر توقعًا أنها ستنطلق يومًا ما لتعلن للجميع أنها خلعت عباءة التأثر المطابق شكلاً إلى حالة التأثر (الروحي) الذي يبقي الايحاء دون تقليد أو نسخ، برز هذا التوجه إلى التغيير في عدد قليل من أعمالها التي تلقت بها الإعجاب والتقدير في الكثير من الدول العربية والعالمية، من نقاد ليس لديهم أي فكرة أو علم بما تأثرت به، تلك الملامح للتطوير وليس التغيير كانت كالومضات أو الفلاشات التي تظهر أحيانًا وتختفي وكأني بالفنانة نجلاء مترددة في الخوض فيها أو اعتلاء صهوتها نحو تقديم تجربة أكثر قربًا لذاتها ودون إخلال بما تلقته من إرث في فهم للمعنى والفكرة قبل الشكل والتكوين، وما تمر به مرحلة أصحب في التعبير عن مكنوناتها.
(شجار) المعرض المفاجأة
شجار أو أشجار بألف أو بدونها كان المعرض وما تضمنه من أعمال نقلة كبيرة مقنعة لكل من حضر ومفاجأة لكل من توقع أن تكون الفنانة نجلاء قد سجنت إبداعها فيه، كنت أنظر للوحات كشكل أكثر منه كمعنى أشارت إليه في مقدمتها أو في التعريف بفلسفتها التي لم تكن مباشرة بقدر ما كانت بمثابة مفاتيح للمشاهدين تاركة لهم اختيار أي باب يلجون منه للوحاتها ويبحثون في ثناياها عن المعاني والإشارات والرموز.
كان الشكل في هذا المعرض وبتكرار لا يمل في بعض اللوحات، يذكرني بقصائد الزهيريات التي يلتقط الشاعر فيها الكلمة ويوظفها أكثر من مرة بمعنى آخر مثل قول الشاعر:
(تبدلت يا وليف الروح منت ذاك الأولي
لا وفيت ولا وفا لي عهدًا بك أولي
خبري فيك بشوفتي تنسى تاليك والأولي).
فالشجرة في معرض نجلاء السليم هي الشجرة من جانب التكوين لكنها تحمل معاني تمثله الكلمة من إشارة إلى الخطوط المتشابكة والعناق غير الودي بين الشجرة والأخرى لتقارب الاسم أو العنوان (شجار).
المهم هنا هو التكوين أو الرمزية التي اتبعتها الفنانه في تنفيذ لوحاتها وتعاملها مع الخطوط ومحاولتها الخروج من إيقاع الآفاقية التي اتخذها والدها في اتجاه الخطوط من اليمين إلى اليسار وبتدرج لوني يمتد إلى الأفق ونقلها من الأرض إلى الشجرة كما لاحظه الكثير في تحريك الجسد في لوحات سابقة اختارت الاتجاه الرأسي في إيقاع الخط لمخالفة الخط الأفقي.
وإذا خرجنا من جانب الخط ومحاولات الفنانة في الابتعاد دون تخلٍ عن تجربة والدها وما نجحت به من أحداث نوع من المرونة والتأكيد على الخط كخط ليس إيحاء كما عمل به الفنان الراحل السليم به من خلال الفاصل بين الألوان المتدرجة التي كانت يتعامل بها في لوحاته.
اللون سيد المعرض
اللافت للنظر في المعرض هو نجاح الفنانة في طبع تجربتها اللونية الجديدة
حيث برز تناغم بين الألوان الباردة والساخنة وكسر قسوة الألوان المتضادة بالألوان الأكثر شفافية والتقاطها للمساحات التي يمكن أن تسقط بها اللون المعني بالفكرة كالأحمر والأصفر. وبما وصفته من رمزية لعناصر مقصودة عكس ما قيل أنها تلقائية أو أن الفنانة تسير حسب ما يوحي لها الشكل الناتج عن التخطيط الأولي للوحة كيفما شاءت الخطوط.
في تجربة الفنانة نجلاء السليم الجديدة وعي صريح ومباشر في اجتزاء اللحظة، وأحداث توافق بين الاحتمالات المختلفة التي تنتهي بها اللوحة مع ما كانت عليه في مخيلتها، تتداخل وتتصادم عبر حالات من القبول والرفض، وكأن اللوحة لديها تعيش بين الخصوصية في إخفاء المعنى وساترة للعورة، تمنح المشاهد فرصة استنباط تلك الخفايا، التي كانت في رحم الفكرة وصولاً إلى امتدادات اللون والخط ووصولاً إلى الشكل.
اعتمدت الفنانة نجلاء في تجربتها الجديدة إلى توظيف الشكل في وضع احتشادي يبعث الدهشة ويمنح المشاهد طرح الأسئلة البصرية باتجاه التأويل، من التجاور والتداخل إلى حد الاحتضان، مع ما يسمع من خلال التكوين اللوني والخطي (شجار) كما عنونت المعرض وكانها تمنح الأشجار فرصة البوح الصامت المعبر. نختم بالقول (إننا نتخيل حينما نقف أمام اللوحة أنها تسألنا.. إلى أي مدى وصلت إلى أعماقكم واستفززت وحرضت جوانب الجمال أو القبح في نفوسكم).
- monif.art@msn.com