نختتم اليوم حوار المذيع بيل مويرز من خدمة البث العام الأمريكية (PBS) مع بيل غيتس:
مويرز: ما هي برأيك الأمراض الرئيسة التي سوف يتعين علينا التصدي لها في السنوات الـ25 المقبلة؟
غيتس: حسناً، في رأس القائمة سيكون الإيدز بكل تأكيد. إنه مرض معدٍ وسريع الانتشار. وأنا لا اعتقد أن وباء الإيدز نفسه يعرف مقدار خطورته لو كان له عقل. لو أردنا تصميم مرض سيئ، فإننا على الأرجح لن نستطيع أن نصنع مرضاً أسوأ من الإيدز. إن الكمون الذي يصاحب الإيدز، أي حقيقة كونك مصابا بالعدوى ولا تدري بالفعل عن ذلك إلا بعد رؤية الآثار الصحية السلبية بعد 6 أو 8 سنوات لاحقة، هو أهم سبب في جعل الناس لا يفهمون هذا المرض.
لنأخذ شيئا مثل التدخين. دعنا نقول إنه بدلاً من أن يموت الشخص بعد 30 عاماً بسبب السرطان، فإننا سنقول: إذا دخنت فسوف تموت فورا والآن. عندها، الناس سوف تفهمنا وتقول: «أوه، لقد دخن ومات. هذا مخيف. لن ندخن بعد الآن».
في الواقع، إن الإيدز هو كذلك، حيث إنك لا ترى أثر ذلك على المجتمع. ولكن إذا قام شخص بزيارة إحدى المشتغلات بالجنس، وخرج من عندها، ثم سقط في الشارع، فسيكون هناك كومة من الجثث، وسنقول عندها: آها.. شيء ما يحدث هنا.
في الحقيقة هناك القليل من الأوبئة ذات الحمى والنزيف وهي لذلك تحصل على دعاية لا تصدق مثل: ايبولا، وماربورغ، ولاسا. وهي بالفعل موجودة في مئات من الناس -فقط-، ولكن لأنها تسبب الموت المفاجئ، فهي تحصل على اهتمام وتغطية إعلامية أكثر من الإيدز.
على سبيل المثال، لنفرض أن طائرة تحطمت في الهند وفي اليوم نفسه مات 8.000 طفل تقريباً من أمراض كان يمكن علاجها. من الذي حصل على التغطية الإعلامية؟ حسناً، أنا لا أتوقع تغطية كل يوم، ولكن ربما على الأقل مرة كل شهر يتعين عليهم القول فقط: «بالمناسبة، كل يوم من هذا الشهر، ونحن لا نريدكم أن تنسوا، هناك 8.000 شخص يموتون، وسنخبركم عندما تحدث تغييرات، ولكن حتى الآن، هذا هو الحال منذ فترة طويلة جداً»!
مويرز: أليس صحيحا أن في أفريقيا أكثر الأطفال يموتون من أمراض الجهاز التنفسي من الذين يموتون بسبب الإيدز؟
غيتس: بسبب هذا الكمون، هناك 5 ملايين شخص أصيبوا بالعدوى هذا العام. ولهذا، الإيدز سيبقى السبب الأول للوفيات. وفيات الأطفال لا تزال أعلى، وأكبر مشكلة لوفيات الأطفال هي التهابات الجهاز التنفسي الحادة.
مويرز: نعم...
غيتس: عموماً الأمراض المتعلقة بالالتهاب الرئوي. ولذلك، ينبغي التعامل معهما معاً. وفي الواقع هناك لقاحات، على الرغم من أنها لا تزال مكلفه جداً، يمكنها أن تتعامل مع مشكلات في التنفس في الأطفال.
مويرز: هل تبحث عن لقاح للملاريا؟ لأن الملاريا تقتل الكثير من الناس.
غيتس: نعم. من حيث المركز الثاني (بعد الإيدز)، يجب على الأرجح وضع الملاريا. الملاريا لا تقتل مليون شخص في السنة فحسب، ولكن في أي وقت هناك 300 مليون شخص يصابون بالوهن منها. وإذا أخذت أهم 10 أمراض التي تسبب مشكلات في أفريقيا، فالكثير منها لن تعرف حتى أسماءها(1). أقصد مثلاً إن شيئا مثل التراخوما لن يكون من ضمن أهم 20 مرضاً.
مويرز: هل تعتقد أننا يمكن أن نجد لقاحاً للملاريا؟ يقول البعض إنه أمر مستحيل؛ لأنه مرض شديد التعقيد.
غيتس: من دون شك. أولاً وقبل كل شيء، أنا شخص متفائل. ولكن هناك مع الملاريا حصانة فطرية. أي أنه إذا أصبت بالعدوى، فإنك -على الأرجح- لن تصاب بالمرض مرة أخرى، باستثناء سلالات مختلفة. ولذلك، من الواضح أن الجهاز المناعي يرتبط بشيء ما في مسيرة هذا المرض. ولهذا، كل ما يتعين علينا القيام به هو أخذ تسلسل المعلومات وتحليلها ومحاولة معرفة ماهيتها. وأستطيع الجزم بثقة أنه في غضون 20 سنة مقبلة وربما الأمثل خلال 10 سنوات مقبلة سنصل إلى لقاح جيد للملاريا.
مويرز: في التجارة، السوق يركلك في مؤخرتك إذا صنعت خطأً. أما في الأعمال الخيرية، فبعض أخطائك يُحتفى بها لأنك تبرعت بالمال ولن يأتي أحد مطلقاً ليسأل: ما هي النتيجة؟!
غيتس: يتعين علينا أن نكون قاسيين مع أنفسنا في الأعمال الخيرية. نحن سوف نرتكب أخطاء بالتأكيد. ولكن مرة أخرى، يجب أن نُقبل على المجازفة. أعني أن هذه واحدة من الأمور التي يمكن للمحسن أن يفعلها بينما لا تقبل بها الحكومات. السياسي لا يريد تخصيص أموال إذا كانت نسبة المخاطرة بأنه سيفعل شيئاً جيداً هي واحد من ثلاثة؛ لأنه عندئذ لا يحب أن يعترف بسبب ضياع الثلثين.
في حين أن المحسن يستطيع أن يقول: «حسناً، ولكن سنأخذ هذه المخاطرة». لأن المردود سيكون هناك. وكما تعرف، أنا لن أخسر الأصوات وأطرد من المنصب إذا وصلت إلى طريق مسدود. لذلك، ينبغي علينا أن نفعل الأشياء التي لا يستطيع النهج الرسمي العادي القيام بها. سواء كانت لقاحاً للإيدز أو الملاريا أو طرق التوصيل. يجب أن نبادر ونقبل ببعض الفشل.
مويرز: هل المشكلة الأساسية هي أنه ليس لدينا ما يكفي من المعرفة لحل قضايا الصحة العالمية؟ أم هو الفقر؟ أقصد إذا اضطررت للعيش بدخل يساوي دولارا واحدا في اليوم، فلن أكون قادراً على الحصول على أي رعاية طبية، ولن أكون قادراً على الحصول حتى على الأسبرين. لن أستطيع تحمل تكاليف الرحلة إلى العيادة. أطفالك، وأطفالي وأحفادنا يستطيعون تحمل تكاليف الرعاية الطبية اللائقة. أليس الفقر هو القضية الحقيقية هنا؟
غيتس: نعم، لا ينبغي أن يكون الوضع كذلك؛ فمن صالح العالم، سواء على أساس إنساني أو حتى على أساس اقتصادي بحت، التعامل مع هذه الأمراض بفعالية. إنه أمر واضح تماماً وإيجابي تماماً. أنا، في الواقع، أغضب عندما يحاول الناس تبرير هذه الأمور الصحية من الناحية الاقتصادية، كأن تقرأ صحيفة تقول: «إذا عالجنا الملاريا، فإن الناتج القومي الإجمالي لهذا البلد سيزيد 30 في المئة!»
إن ذلك يعيدنا إلى الوراء. أعني إنه صحيح. إحصائياً صحيح، وأنا أفترض أن هناك بعض الجماهير ينبغي استخدام هذه الحجة معهم. ولكن كل الثروة المادية هي أداة لقياس الرفاهة البشرية. إنها مجرد أداة صنعناها لمساعدتنا على تحفيز الناس وإنجاز الأمور.
إذا كانت الوفيات لا تظهر في الناتج القومي الإجمالي، فإن هذا لا يعني أن الوفيات غير مهمة. إذا كانت المعاناة من الملاريا لا تنعكس في هذه الأرقام، فإن الملاريا لا تزال في غاية الأهمية. لذلك، لا ينبغي أن نضطر إلى اللجوء إلى هذه الحجج الاقتصادية.
بعض الناس يلجؤون إلى الحجج الأمنية. ويقولون: «إذا لم نعالج هذه الأوبئة، فإن الاستقرار في هذه البلدان سوف يهتز، ويمكن أن يكون الأمر مخيفاً». أو يلجؤون إلى حجة: «إن الأوبئة قادمة إلى منطقتنا». يقصدون أن شخصاً ما من تلك البلدان الموبوءة يمكن أن يركب الطائرة ويصل إلى بلدهم وقد يعديهم. إنهم لا يبالون بالمرضى بل بالخوف من العدوى.
ولو كانت تلك الحجج ستجعلنا نحصل على المزيد من المال من أجل الصحة العالمية، فإنه أمر جيد، ولن أعترض. لكنهم مخطؤون. الحجة الصحيحة هي أن هناك أماً عندها طفل مريض. وحياة هذا الطفل ليست أقل أهمية من أي شخص آخر في مكان آخر. والعالم لديه الكثير من الموارد التي تستطيع حل هذه المشكلات.
مويرز: دعنا نفترض أن الجميع اتفق معك. أي أنهم يريدون أن يفعلوا عملاً أخلاقياً. ماذا يمكننا أن نفعل عملياً؟
ينبغي أن تزيد الولايات المتحدة من تبرعها لقضايا الصحة العالمية.
غيتس: لكي تقدم الولايات المتحدة حصتها العادلة، يجب زيادة ما نقدمه لقضايا الصحة العالمية من 6 دولارات لكل مواطن إلى 30 دولاراً أو 40 دولاراً. وإذا قدمت البلدان الغنية الأخرى حصصهم العادلة، فمن ثم سيكون هناك المال الكافي لإعطاء اللقاحات، ولاكتشاف لقاحات جديدة، ونشر التعليم الصحي في القرى. إن الصورة الكاملة للصحة العالمية سوف تتغير بشكل دراماتيكي.
مويرز: أطباء الصحة العامة الذين أعرفهم يتحدثون عن الاستجابة الإيجابية في البلدان الفقيرة. أي إذا اقتنع الوالدان أن أطفالهم سيعيشون بصحة جيدة، فإنهم يوفرون مالاً أكثر، وينجبون أقل، وبالتالي هناك المزيد من المال لينفقوه على أمور أخرى. هل تقبل بهذه الفكرة كنظرية عملية؟
غيتس: بكل تأكيد. وتلك هي أعظم حقيقة مذهلة ينبغي أن يعرفها الجميع على نطاق واسع. وكما تعرف، فإن مالثوس كان مخطئاً في الأساس؛ فإذا قمنا بزيادة الثروة، وحسّنا الصحة، وبخاصة إذا ثقفنا المرأة، فإن هذه الدورة الفعّالة سوف تنجح. ولن يصبح المجتمع مكتفياً ذاتياً فقط، لكنه يمكن أن ينتقل إلى مركز متطور تماماً.
نادي روما(*) كتب تقريراً عن أننا أساساً متجهون نحو كارثة. أي أن كمية الغذاء التي سوف ينتجها العالم ستكون غير كافية، وأن الأمور سوف تزداد سوءاً وسوءاً وسوءاً.
حسنا، الآن -على الأقل- في البلدان التي تكون فيها الصحة جيدة، نحن نرى تحسن معدلات القضاء على الأمية. نحن نرى تحسن أساليب الحياة. كل هذا بمجرد تحقيقك هذا الأمر بصورة جيدة. وهذا الأمر كان بمثابة إلهام لي. أنا -بصراحة- كنت أعتقد أن مبادئ مالثوس تنطبق -على الأقل- في البلدان النامية.
ولكن بسبب التقدم في تكنولوجيا الكمبيوتر الآن في الطب، فإن الاكتشافات ستتحرك بمعدل لا يصدق. بالنسبة للأجيال الجديدة من أبنائنا وبناتنا، الأعوام الـ20-30 المقبلة سوف تكون الوقت المناسب للعمل في مجال الطب بتخصصاته كافة. سوف يتم عمل تقدم مذهل في حل الكثير من المشكلات الكبرى.
فكِّر فقط بطفل يحب أن يعرف شيئاً عن الملاريا مثلاً. يمكنه الذهاب إلى الإنترنت اليوم ويعرف ماذا يحدث. يستطيع أن يرى الجينوم(1) إذا أراد. ويستطيع كذلك أن يرى البحوث التي نشرت بواسطة مختلف المختبرات.
ولذلك، أنا متحمس جداً حول دخول الأجيال الجديدة في مجال الصحة الآن؛ فلديهم مصادر معلوماتية توضح الرؤية وبخاصة لأمراض العالم الفقير. المعلومات الآن في أيديهم. ويجب أن يكونوا قادرين على أن يفعلوا الكثير بها.
** ** **
هوامش المترجم:
(*) نادي روما (The Club of Rome): تجمع عالمي نخبوي تأسس عام 1968 في روما على شكل خزان فكر (Think Tank) بهدف المحافظة على مستقبل الجنس البشري. يعتبر نادي روما ممثلاًً للمالثوسية الجديدة (Neo-Malthusianism). نشر النادي تقريراً مثيراً للجدل عام 1972 بعنوان «حدود النمو»، قدم فيه صورة متشائمة للعالم في المستقبل مستعملاً مبادئ مالثوس بصورة أكثر تركيباً. ويربط بعض المفكرين حالياً توجهات نادي روما مع النظام العالمي الجديد.
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com