المدخل:
تعبيراً عن المستحيل شاع استخدام المثل القائل (يريد إدخال الفيل في خرم إبرة)، ولكن هل نعي نحن البشر جميعاً ما هو المستحيل؟.. وإذا أدركنا ما هو المستحيل هل سنكف عن محاولة تحقيقه؟.. يبدو ليس من السهولة فهم المستحيل، وإذا فهمه بعضنا لا يكف عن الإصرار على تحقيقه حتى لو كلف ذلك أنهاراً من الدماء دون جدوى.
عندما انتفض مسيلمة الكذاب ضد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخرج آيات ادعى أنها من الله مثل: والفيل، وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل.. وصدقه بعض الأعراب وقاتلوا معه. بالرغم من سذاجة هذا الطرح، وبالرغم من أنه مستحيل -ولا أعلم إذا كان مسيلمة يدرك في وقته استحالته أم لا- ولكن أن يتلقفه بعض الجهلة ويقاتلون من أجله فهذا أمر يستحق التوقف عنده.
أرسل مسيلمة رسالة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء فيها من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: ألا إني أوتيت الأمر معك فلك نصف الأرض ولي نصفها ولكن قريشاً قوم يظلمون فرد عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عنده والعاقبة للمتقين.
بالرغم من أن مسيلمة كان أكبر سناً من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وادعى النبوة قبله، وقد اتهمت قريش محمداً بالكذب في بداية الدعوة، بل كادوا يقتلونه، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يطلب شيئا لنفسه، بل آثر على نفسه حتى وفاته.. أما الكذاب مسيلمة لم يع أن الله ورّث الأرض للناس جميعاً كي يبنوا صرحاً توزع الثروة فيه بعدالة، ويعيش الجميع ضمن مجتمع لكل فيه دور، والجميع مكفولين ضمن نظام يحمي الغني والفقير.
هل كان ما يطلبه مسيلمة مستحيلاً؟.. إذا كان الجواب لا، فلماذا لم ينجح في القضاء على المسلمين حتى بعد تحالفه مع سجاح التميمية النصرانية، التي هيأت جيشاً وتزوجت من مسيلمة لمقاتلة محمد، ثم تركت مسيلمة بعد ثمانية أشهر وهاجرت إلى عمان؟.
من المثير جداً أن تكون المرأة قائداً في ذلك الوقت من البداوة والجهل، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى بحوث تاريخية للمتخصصين، وكيف وصلت الأمور في نجد إلى درجة لا يتصورها عقل في وقتنا الحاضر، حيث تراجع دور المرأة ووصلت إلى تغطية وجهها عن زوجها وأولادها، وقد يصل الأمر لبعضهن أن يغطين وجههن عن بناتهن أيضاً.
ما يهمنا هنا هو أن سجاح النصرانية، التي تشربت العقيدة المسيحية السابقة للإسلام، بمضمونها العميق لنبذ البداوة والتمزق القبلي - العشائري، وبناء دولة تعيد توزيع الثروة من أجل الناس وليس من أجل فرد، لم تجد في ذلك البدوي الكذاب مشروعاً للناس أجمع، إنما مشروعاً لخدمة مجده الشخصي، وأدركت أن الفيل لا يمكن إدخاله في خرم إبرة، فهجرته وانزوت في عمان، ولا استغرب إن كانت قد انتحرت.
حتى الزواج لم يكن هدفاً شخصياً للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، بالرغم من أنه تزوج من 11 امرأة إلا أن هدفه كان الجمع بين القبائل وعدم السماح لقبيلة واحدة -حتى لو كانت قريش- أن تدعي أن الإسلام يخصها وحدها ولا شريك لها.
كليب التغلبي لم يكن كاذباً مثل مسيلمة، ولم يدع النبوة، وتزوج من قبيلة بكر، وكان يتوق إلى تخليص قومه من الروم والفرس اللذين تقاسما الهيمنة على الجزيرة العربية في ذلك الوقت، ولكنه لم ينصب نفسه ملكاً وحسب، إنما استأثر بالمراعي والصيد وحرم قومه من الثروة.
بالرغم من أن قبيلة وائل، التي تضم عشيرتي بكر وتغلب، نصبت كليباً شيخاً لها وساندوه في حربه ضد ملك اليمن، إلا أن التغيير لا يتم في أي مرحلة من مراحل التاريخ إلا بالناس جميعاً بأغنيائهم وفقرائهم، أما بعد هزيمة (التبَع اليمني)، أخذته نشوة الانتصار ونصب كليب نفسه ملكاً، وأبقى على الاقتصاد الرعوي المتدني، الذي لا يمكّنه من بناء دولة، وضيق الخناق على من يملك الثروة كالتاجرة البسوس ونحر ناقتها، واستحوذ على المراعي ومصادر المياه، واستعبد أفراد قومه، أي أراد إدخال الفيل رغماً عن أنفه في خرم إبرة، فقتل ودخل قومه في حرب حرقت البشر والثروة، دامت ما يقارب الأربعين عاماً ولم تنته بموت الزير سالم.
هذه الظواهر من صراع الضرورة بين المستحيل والممكن جرت في فترة انتقالية من التمزق القبلي - العشائري إلى الإسلام، وكان ذلك شأن الفترات الانتقالية كلها في التاريخ، وجغرافياً.. شأن شعوب الأرض قاطبة.
من أشهر الحركات المناهضة للظلم في تاريخ العرب قبل الإسلام هي الحركة الصعلوكية، التي حاولت حل المعضلة الاجتماعية بين الظالم والمظلوم عن طريق السرقة.
بالرغم من أن كلمة صعلوك لغوياً تعني: الذي لا أملاك له ولا سند، ولكن الصعاليك كانوا أبرز شخصيات عصرهم، ومشهورين بين القبائل بالكرم والعطاء. قال عبدالملك بن مروان من قال إن حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد، وقد كان عروة زعيم الصعاليك في عصره.
وفي الأغاني من خبره كان عروة بن الورد اذا أصابت الناس سني شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، وكان عروة بن الورد يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدة ثم يحفر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف ويكسيهم، ومن قوي منهم إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته - خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه في ذلك نصيباً، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى، فلذلك سمي عروة الصعاليك.
قيل عنه أن قبيلة «عبس» إذا أجدبت أتى أناس منهم ممن أصابهم جوع شديد، فجلسوا أمام بيت «عروة» حتى إذا أبصروه قالوا «يا أبا الصعاليك أغثنا» فكان يرق لهم ويخرج معهم ليحصل على ما يشبعهم ويكفيهم، وهو يعبر بذلك عن نفس كبيرة، فهو لا يغزو للنهب والسلب.. إنما ليعين الفقراء والمستضعفين، حتى أطلق عليه «أبو الفقراء» و «أبو المساكين». الطريف أن «عروة» لم يغر على كريم يبذل ماله للناس، بل كان يختار لغارته ممن عرفوا بالبخل. (انظر - عروة بن الورد – الموسوعة الحرة).
يقول الدكتور (شوقي ضيف) في كتابه (العصر الجاهلي) عن الشعراء الصعاليك وما يلفت النظر في أشعار هؤلاء الصعاليك ترديد صيحات الفقر والجوع والحرمان.. كما كانوا ناقمين وثائرين على الأغنياء والأشحاء وامتازوا بالشجاعة والصبر وقوة البأس والمضاء وسرعة العدو... إلخ). (شوقي ضيف - العصر الجاهلي - الصعاليك - أشعارهم وصفاتهم).
كان أشهر شعراء الصعاليك على الإطلاق -حسب شوقي ضيف- هو «عمرو بن كلثوم» صاحب المعلقة الشهيرة:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
مشعشعةً كأن الخصَ فيها
إذا ما الماء خالطها سخينا
تجور بذي اللبانة عن هواه
إذا ما ذاقها حتى يلينا
***
وما شرَ الثلاثة أم عمرو
بصاحبك الذي لا تصبحينا
وكأس قد شربت ببعلبك
وأخرى في دمشق وقاصرينا
***
كان من أعز الناس نفساً، وهو من الفتَاك الشجعان، ساد تغلب وهو فتىً، وعمر طويلاً، هو قاتل عمرو بن هند ملك المناذرة أمه ليلى بنت المهلهل - الزير سالم وأبوه كلثوم بن مالك التغلبي (نفس المصدر السابق).
الشاعر في (الجاهلية) مميز في دوره الاجتماعي، فهو لسان حال قومه، وكثيراً ما كان الشعراء هم أسياد قومهم، وهم الفرسان المدافعين والمغيرين والغانمين والثأريين، أي أنهم رمز قوة (القبيلة) ومكانتها بين القبائل وعزتها.
كانت القبائل العربية في الجاهلية تفخر بعدد ونوعية شعرائها مقارنة بغيرها، وبالتالي يحاول زعماء القبائل جزل العطاء لشعرائهم وجعلهم من علية القوم، ولكن الشعراء الصعاليك هجروا قبائلهم وكونوا مجموعات مقاتلة غازية تنهب الأغنياء وقوافل التجار، ثم لا تحتفظ بالغنيمة، بل توزعها على المحتاجين من كل القبائل.
معظم الذين انضووا تحت راية الصعاليك من المسحوقين في قبائلهم، وغالبيتهم يمتازون بالعدو والفروسية والفراسة أيضاً، ومن لم يمتلك هذه الصفات وينخرط في صفوفهم يتعلمها ليؤدي دوره.
كانت الحقبة الصعلوكية تمثل مرحلة التحول في الصراع الاجتماعي من التناحر بين القبائل على المراعي إلى التناحر داخل القبيلة بين من يملك الأنعام وبين من يرعاها ولا يحصل إلا على جزء من لبنها أو منتجاتها إذا كان محظوظاً.
تميزت تلك الحقبة أيضاً بازدهار الزراعة -على قلَتها بالواحات- وأصبحت تهدد البقاء على الاقتصاد الرعوي، كما أن التجارة بلغت مستوىً أرفع بكثير من الاقتصاد الرعوي والزراعي مجتمعين، ولذلك كانت غزوات الصعاليك تشمل كل أنواع الاستئثار بالثروة، ولكنهم أعادوا توزيع ما استطاعوا الحصول عليه من ثروة بالطريقة الصعلوكية.
د.عادل العلي - الرياض