سمعت قبل سنوات بصدور مذكرات إبراهيم المحمد الحسون - رحمه الله - بأجزائها الثلاثة عام 1424هـ وعرفت مدى إعجاب من قرأها بها، ولأنني سبق أن قابلته بمنزل ابن أخيه محمد العبد الله الحسون عام 1423هـ عند زيارتي مدينة جدة رفقة فهد العلي العريفي - رحمه الله - عند تكريمه في إثنينية عبد المقصود خوجة.. وكان إبراهيم الحسون هو المتحدث وبالذات عن وصوله لجدة عام 1344هـ بعد حج وقعة المحمل التي كانت بين الإخوان وحرس المحمل المصري وقتل بها عدد من الطرفين.. وكنت على لقاء معه قبل ذلك عام 1421هـ وسجلت معه ضمن برنامج (التاريخ الشفهي للمملكة)، ولهذا لم أحرص على قراءة ذكرياته.
اطّلعت على الكتاب خلال شهر رمضان وبدأت قراءته، ووجدت به تفصيلات دقيقة ووصفاً رائعاً للحياة الاجتماعية في عنيزة.. وعند إصراره على الحج مع عمه علي للبحث عن شقيقه عبد الله الذي غادر إلى الحجاز مبكراً وذُكر أنه يقيم في جدة أثناء حكم الأشراف.
نعود إلى المواقف الثلاثة التي أبكتني.. وفاة شقيقه حمد في العشرين من عمره بعد عودته من الكويت، حيث يعمل عمه عبد العزيز في السفارة البريطانية - ومعه كثير من الهدايا من ملابس وأكياس الرز والدخان الأصفر، على ناقة طلب عمه بيعها وتقسيم قيمتها بين والده وعمه حمد.
ثم سفره إلى المدينة المنورة وعودته وقد أصيب بمرض الملاريا، وقال عنه: «.. ظل حال المرحوم يتدرج من ضعف إلى ضعف، حتى أصبح هيكلاً عظمياً لا يمسك بجسمه إلا جلده المثقل بمواضع الكي، وكان يئن ويتألم من شدة المرض بشكل يقطع نياط القلب من الألم، وهو ممدد إلى جانب البركة وأمي وأبي ونحن جميعاً لا نملك لأمره أي عون أو مساعدة إلا البكاء والابتهال إلى الله، حتى فاضت روحه تحت نخلة الشقراء على جانب البركة، قبيل غروب الشمس من اليوم الثاني لعيد الأضحى المبارك».
وبعد وفاته بثلاثة أشهر تلحق به والدته، إذ أُصيبت بنزيف أثناء وضعها الجنين الذي تأخر في بطنها لأربعة أشهر «.. ولم يكن عندها أحد إذ فضّلت المرأة التي كانت بجوارها حين بدأ الطلق تركها وذهبت إلى منزلها، مما نجم عنه أن أصيبت بنزيف حاد أودى بحياتها، ثم لحق بها الجنين بعد سويعات، كان هذا في حوالي عام 1340هـ».
أصبح والده يدللـه لصغر سنه محاولاً أن ينسيه فاجعة فقده لوالدته وقبلها شقيقه، وكان قبلها يذهب إلى المطوع عبد العزيز الدامغ (هابولا) في كتّابه يذكر من زملائه الوزير محمد المرشد الزغيبي، فانقطع عن الدراسة فأحضر له والده خروفاً صغيراً ليسرح في المزرعة ثم مجموعة من الدجاج والأرانب كل ذلك من أجل تسليته، ومع ذلك نجده رغم صغره يذهب بنفسه إلى كتاب القرزعي (حبحبا).
ذهب لزيارة عمه علي فوجد زوجته تخيط كساء الهودج والذي يوضع فوق البعير (الكواجة) عند الذهاب للحج خاصاً بالنساء فيتذكر شقيقه عبد الله المقيم بجدة.. فيذهب مسرعاً إلى السوق لبيع الخروف والدجاج - أما الأرانب فقد أكلها القط ليلاً لنسيانه قفل باب القفص. كل هذا دون علم والده - فسأل زوجة عمه، هل بالإمكان أخذه معهم، فرحبت به من باب المجاملة ولأنه طفل صغير سوف ينسى أو يلهو عن تنفيذ الفكرة ولكنه صمم عليها.. إذ ذهب بقيمة الخروف والدجاج واشترى قطعتي قماش للإحرام وعصا ونعلاً.. وأخفاها بصفة التبن.. وعند ما علم والده بذلك خاف عليه فذهب إلى أخيه لمحاولة ثني الطفل عن مرافقتهم بإخفاء (الكواجة). فكان كل يوم يذهب متلصصاً من فتحة الباب ليعرف متى يرحلون فلا يجد الكواجة، وبعد أيام وجدهم قد أحضروها ووضعوها فوق البعير، فذهب مسرعاً لإحضار ما دُفن بالتبن فرآه والده فلحق به محاولاً إقناعه وإغرائه ولكن لا فائدة وبعد محاولات لم يكن بوسع الوالد إلا أن يحضنه ويقبله، ويكتفي بقوله: «ليحفظك الله من كل سوء، ثم أغرورقت عيناه بالدموع، وأشاح عني بوجهه حتى لا أرى تأثرة» بعد أن وعده عمه بعودته سالماً بعد الحج.
بعد وصولهم إلى مكة ذهبوا للسؤال عن ابن عمهم عبد الكريم الحسون صاحب دكان بالجودرية يبيع مستلزمات البدو، والذي ذهب بدوره ليتصل بأخيه عبد الله بـ(التلفون) بجدة والذي لم يستطع الحضور بمكة مما حمل الصبي إبراهيم على الإصرار بالذهاب إلى جدة حيث شقيقه، فما كان من عمه إلا أن ذهب به إلى موقف حملات الجمال التي تنقل الحجيج إلى جدة، فسلمه أحد قادة الحملات وأوصاه به على أن يعود بعد أيام.. ولأن عمه قد تعهد لوالده بإحضاره، فقد تأخرت عودة عمه وصحبه بسببه لعدة أيام.
وصل بصعوبة إلى جدة، وكان يسمع أن شقيقه يعمل في (الكنداسة) فذهب يسأل عنه باسم عبد الله الحسون، فلم يعرفه أحد فهم يسمونه عبد الله الشرقي - بدعوى أن أي واحد يأتي من نجد يطلق عليه الشرقي - ومجموعه الشروق - فأخذ يبكي ويصرخ ويرفع يده مقبوضة ليريهم أن أخاه يده متشابكة الأصابع بسبب حريق تعرض له في مهاده، فعرفوه فدلوه عليه في مرقده على المركاز - وكان جائعاً وخائفاً - فوقف عند قدميه ولصغر سنه وقصر قامته كان لا يُرى إلا على مستوى الكرسي، فأخذ يسحب اللحاف من فوق النائم فيتحرك ويتلفت فلا يرى أحداً حوله، فيعاود النوم مستدنياً اللحاف، فيعود الصبي لمحاولته الأولى فيستيقظ أخوه غاضباً فيرى من يسحب لحافه فيظنه شحاذاً فيشتمه قائلاً: ليس هذا وقت الشحاذة فيعاود النوم - وكان إبراهيم معقود اللسان لا يستطيع النطق لظمئه وخوفه - فيسحب لحافه فيزداد غضب أخيه فيقذفه بعلبة السجائر الحديدية فتصيبه بجبهته فيخرج الدم غزيراً على ثيابه وهو لا يتحرك فيجلس أخوه ليعرف القصة، «.. فنزل من الكرسي وأمسك بيدي محاولاً مسح الدم عن حاجبي قائلاً بصوت فيه كثير من الانكسار والعطف: من أنت؟ وهنا انطلق لساني: أنا أخوك إبراهيم.. » وهنا أخذ يعانقه ويجلسه إلى جواره ويقبله بلطف وحنو «.. كان الجو عاطفياً مشحوناً بالانفعال، وأنا أتملى صورة أخي وشقيقي أمامي لأول مرة في حياتي - أحسُّه كائناً موجوداً لا كما كان يشاع بأنه قد طواه التراب». يذهب به إلى المنزل فيغسله ويحممه وينزع عنه ملابسه البالية ويستبدلها بأخرى جديدة.. ويرسل رسالة لعمه علي بمكة مرفقاً بها عشرون جنيهاً ذهباً لوالده ولعمه خمسة.. طالباً منه العودة لعنيزة بالسلامة وترك إبراهيم ليتعلم عنده.. وهكذا أدخله مدرسة الفلاح وعامله طلابها بقسوة ووصفوه بـ(الغطغطي) النجس فإذا شرب من الزير لا يشرب منهم أحد منه.. ويكال له العقاب عن كل من يرتكب خطأ في الفصل من زملائه وكأنه هو مرتكبه، حتى أصبح عريفاً (برنجي) للفصل بفضل تفوقه عليهم، فأصبحوا يدينون له بالولاء وتغيَّر تعاملهم معه إلى الأحسن.
ونختم باختبار طلاب السنة النهائية - التاسعة - والتي تدعو إدارة المدرسة - في العادة - شخصيات اعتبارية من مسؤولين وممثلي دول لإجراء الامتحان لطلاب النهائي، وكان اختيارها لاختبار الحسون ودفعته: السفير المصري حافظ بك عامر وموفق الآلوسي الوزير المفوض للعراق لدى المملكة وأربعة من أعيان جدة، وكان من نصيب الحسون أن يمتحنه السفير المصري بمادة التفسير، والذي استفزه بقوله: أنت من بلد مسيلمة مدّعي النبوة، فأجابه: نعم مسيلمة مدّعي النبوة وأنت من بلد فرعون مدّعي الألوهية، فصفق الحضور، فبدأ بكل صلف وتحد وعنف وبأسئلة شبه تعجيزية، ومع ذلك فقد أجابه بكل ثقة، وسأله عن تفسير آيات سورة الفاتحة، مع تبيان الأحكام الشرعية والشواهد النحوية وأنواع البلاغة.. فأجابه بوضوح وثقة... وفي النهاية أهدى له كتاب (الارتسامات اللطاف) للأمير شكيب أرسلان، وكتب عليه بخط يده (هدية مني إلى الطالب النجيب النجدي: إبراهيم الحسون الشرقي، ثم وقع عليه بعد أن أضاف كلمة (بركت بلاد أنجبتك) بتاريخ 20/11/ 1352هـ.
لم أستطع أن أكمل تلك المذكرات دون أن أقف لأمسح دموعي لتأثري.
- الرياض