(31- شهادة العاديّات المِصْريَّة- 1)
يذهب بعض المؤرِّخين إلى أن (بني إسرائيل) هبطوا (مِصْر) في إثر سيطرة (الهكسوس) عليها، وأن هؤلاء الآسيويِّين الساميِّين- العراقيّين فيما يبدو- قد وفّروا للإسرائليّين بعض الحماية. ويُرجَّح أن هبوطهم مِصْر كان عام 1650ق.م، وأن خروجهم كان 1220ق.م، استنادًا إلى ما وردَ في التوراة من أن إقامتهم في مِصْر استمرّت 430 سنة.(1) وهذا ما سنبحث أمره لاحقًا. ولعلّ هذه الخلفيَّة تفسِّر لنا اضطهاد العبرانيّين من قِبَل المِصْريّين بعد تحرير مِصْر من الهكسوس، عادِّينهم جزءًا من أولئك الغزاة، أو متعاونين معهم، أو أنهم كانوا يحظون في عهدهم برعاية ومكانة.
ونقلَ المؤرِّخ اليهودي (يوسيفُس، -100م) عن المؤرِّخ المِصْري (مانيثون، الذي عاش في القرن 3ق.م)، أن موسى كان كاهنًا مِصْريًّا. قال: وكان قد فشا بين بني إسرائيل، المستعبَدين المملقين، وباءُ الجُذام، فخرج الكاهن موسى مبشِّرًا فيهم، ومعلِّمًا لهم قواعد النظافة المتَّبعة لدى الكهنة المِصْريّين. وهو يفسِّر سبب خروج بني إسرائيل من مِصْر برغبة المِصْريِّين في نفيهم من أرضهم اتقاءً لذلك الوباء الذي أصابهم.(2)
في حين ينقل (ديورانت)(3) عن (جارستانج)، عضو بعثة (مارستن Marston)، التابعة لـ(جامعة ليفربول)، أنها كُشفت في مقابر (أريحا) المَلَكيَّة أدلَّة تُثبت أن (موسى) قد أنجته(4) الملِكَة (حتشبسوت)، عام 1527ق.م، وتربَّى في بلاطها، وفرَّ من مِصْر حين تولى المُلْكَ (تحوت موسى الثالث)، عدوّ حتشبسوت. وجارستانج يذهب إلى أن الخروج كان في عام 1447ق.م.(5) ولقد أشير في «التوراة» و»القرآن» إلى أن موسى تربَّى في القصر المَلَكي فعلًا، وأنه كان تحت رعاية ابنة فرعون، حسب التوراة (6)، وامرأة فرعون، حسب القرآن: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ، لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى? أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(7) وجاء كذلك: {وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(8) وحتشبسوت هي ابنة الفرعون (تحوت موسى الأوَّل)، من المَلِكة (أعح مس)، وامرأة الفرعون (تحوت موسى الثاني)، والوصية على الفرعون (تحوت موسى الثالث)، الذي حكمتْ باسمه، لصِغر سنّه، بوصفها مَلِكة.
غير أنه لم يُعثر لموسى على ذِكر في الآثار المصريّة المكتوبة. وهذا غير مستغرب؛ لأمرين: أوّلهما، أن المِصْريّين ما كانوا ليحتفلوا بذِكر رجلٍ يعدّونه من العصاة المتمرّدين، وإنما كانت أثارهم وكتاباتهم تحتفي بالملوك وعظماء القوم وما يفتخرون به من أحداث. الأمر الآخر، كان من المألوف في التاريخ المِصْري طمس ما لم يكن مَرضيًّا عنه لأسباب دِينيَّة أو سياسيَّة. ولقد حاولوا طمس آثار (أخناتون)، مثلًا، لمّا خرَج عن تقاليدهم الدِّينيَّة. وكان هو قد فعل ذلك بمحاولته طمس آثار سلفه وهدم تماثيلهم ومعابدهم لأسباب دِينيَّة كذلك. فكيف بموسى، وهو الابن الغريب والعاقّ؟!
على أنه قد جاء في كلمات الفرعون المِصْري (مرنبتاح، الذي حكمَ من 1213 إلى 1203ق.م)- وهو ابن الفرعون (رمسيس الثاني)- التي سجّلها على لوحته الشهيرة بـ»بلوحة بني إسرائيل»، ذِكرًا لبني إسرائيل، في قوله: «يسرائر/ يسرائل/ إسرئيل ضائعة، وبذرتها عقيم». وذلك في نصٍّ منه:
«لقد غُلب الملوكُ وقالوا: سلامًا!
وخربت تحينو،
وهدّمت أرض الحثيّين،
وانتهت كنعان، وحلَّت بها كل الشرور، ...
وخربت إسرائيل، ولم يعُد لأبنائها وجود،
وأضحت فلسطين أرملة مِصْر،
وضُمّت كلّ البلاد، وهُدِّئتْ،
وكلّ من كان ثائرًا قيَّده الملك مرنبتاح.»(9)
فهل كان مرنبتاح يعيش في (المصرامة)، التي اكتشفها (د. كمال الصليبي) بين (أبها) و(الخميس)؟! أم كان يقصد بني إسرائيل الذين يعيشون في (عسير)؟!
كلّا، لا هذا ولا ذاك. بل كان يسجِّل انتصاراته على الشعوب المجاورة لمِصْر، ومنها انتصاراته على أرض كنعان وإسرائيل، مستكملًا انتصارات أبيه. وهي المرَّة الأولى التي تظهر فيها كلمة (إسرائيل) في أَثَرٍ مِصْريّ. يُذكر أن اللوحة كانت في الأصل للفرعون (أمنحوتب الثالث، -1353/ 1351ق.م)، لكن مرنبتاح استخدمها. وقد اكتشفها عالم المِصْريَّات الإنجليزي (ويليم فليندرز بتري)، في معبد مرنبتاح الجنائزي، عام 1896م، وهي محفوظة اليوم بالمتحف المِصْري.
وفي المساق الآتي سنتوقف بالتفصيل عند هذا الأثر، وعند أخناتون وعلاقته بالعقيدة الموسويَّة، والمراسلات التي عَثر عليها كذلك ويليم فليندرز بتري في (تلّ العمارنة) بصعيد مِصْر، وكانت بين الكنعانيّي ن في (فلسطين) وأخناتون في مِصْر، وشكوى الكنعانيّين من غزو بعض الشعوب، ذاكرين من بين الغزاة: العبرانيِّين. لكن أخناتون لم يُوْلِ شكواهم اهتمامًا. وكيف نفهم هذه النصوص والآثار؟ وسنرى أنها تدحض في جملتها كلّ المزاعم- السابحة خارج التاريخ- الذاهبة إلى أن العبرانيّين كانوا في شِبه الجزيرة العربيّة، بل إن مِصْر و(الشام) كانتا في شِبه الجزيرة العربيَّة! ومَن لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور!
** *** **
(1) انظر: ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 324- 325.
(2) انظر: م.ن، ج2 م1: 326.
(3) انظر: م.ن.
(4) في الكتاب: «أنجبته». ووَفق (القرآن الكريم)، الصواب: «أنجته» من القتل، وانتشلته من اليَمّ.
(5) انظر: ديورانت، م.ن.
(6) انظر: سِفر الخروج، الإصحاح الثاني.
(7) سورة القَصص، الآية 9.
(8) سورة التحريم، الآية 11. ويَرِد في التراث الإسلامي أن اسم امرأة فرعون هذه: (آسية).
(9) انظر: ديورانت، ج2 م1: 324.
- الرياض - p.alfaify@gmail.com - http://khayma. om/faify