التكفير - بحدّ ذاته - حالة لا تخصّ فريقاً دينيّاً دون آخر، وهو على الرغم من كونه سبباً رئيساً في تنافر التعايش بين المختلفين - مذهبيّاً ودينيّاً وضعفاً أخلاقياً في موازين المعاصرة - لكنّه (منفرداً) لا يصل إلى حدود تهديد التعايش ووصولاً إلى القتل وما يقع في حكمه على الأفراد والجماعات وتهديد السلم الأهلي في مجتمعات تضمّ ثقافات مختلفة ومختلطة؛ فالتكفير موجودٌ أو يكاد يكون طبيعة في الفكر الديني: أنّ كلّ فريق ينظر للآخر على أنّه (كافرٌ) بالنسبة إلى تصوّراته ومعتقداته، لكنّ العنف والخطر الدموي ليس تابعاً - تحديداً أو بالضرورة - عن طريق (التكفير)، فليس كلّ تكفير بالضرورة يتبعه قتلٌ وعنفٌ، فالقتل لا ينتج عبر هذه الاختلافات الموجودة، والتي هي من طبيعة الفكر الديني في دفوعاته عن ملكيّته للحقيقة التي دائماً ما تعتمد على إبطال تصوّرات الآخرين واصطفاء تصوّراته.. لذلك فإنّ الظاهرة التي يجب أن تكون محلّ دراسة ويمكن أن تفضي إلى تقنين وتشريع يحدّ من خطورة التكفير ويفسد من مفعولها الدموي: هي ظاهرة القتل تحت ذريعة التكفير وليس ظاهرة التكفير (مستقلة عن فتاوى القتل والتحريض عند أي مذهب وديانة)، لأنّ التكفير ليس ظاهرة يمكن تجاوزها أو حلّها، لطالما يستمدّ التكفير بقاءه من بقاء الفكر الديني نفسه، فأنت لست مطالباً بالدخول إلى أعماق نفوس المؤمنين ونصوصهم في جميع الأديان ونزع اعتقادهم باصطفاء الله لهم في جنّته وملكوته ونبذ الآخرين في جهنم وطردهم من رحمته؛ ولذلك فإن حالة التكفير لا تشكّل خطراً دمويّاً يُفضي إلى زهق النفوس والدماء إن لم تكن حالة التكفير مدعومة بتشريعات فقهيّة دينيّة تبيح قتل المخالف أو الخارج أو المرتدّ (الكافر)، بل، وتَعتبرُ هذا النوع من القتل عملاً مرضياً يُؤجر القائم به بالثواب فيلقى عبر قتل (الكافرين) رضا الله وحيازة ملكوته.. وهذه التشريعات الفقهيّة الدينيّة لم تكن يوماً حصراً أو استثناء في ديانة دون أخرى أو مذهب دون آخر في تواريخ مختلفة من سيرة أتباع الديانات وعلاقاتهم بالمختلفين والمخالفين والمرتدين، بينما كانت مصاحبة لهذه الفرق في كثير من مراحلها التاريخيّة والمعاصرة أيضاً؛ وقد تختلف هذه التشريعات أو التفسيرات أو الدعوات (لقتل الكافر) بين اجتهادات شخصيّة لرجال دين لهم تأثيرهم ونفوذهم في مجتمعات يسيطر عليها رجالُ الدين ولا يجدون أمامهم رادعاً قانونيّاً، وأخرى دعوات شخصيّةسياسيّة في فترات عنصرية معيّنة، وجميع تلك الدعوات والتشريعات كانت تستند إلى نصوص، أو تأويل نصوص دينية، أو ربما دون إسناد، فالتطهير الديني والعرقي لا يحتاج إلى (إسناد أو حجّة) لأنّه غوغائيّ، ويتحرّك بغريزة دمويّة، لا يتساوى معه منطق الحجج والأسانيد الذي يتطلّبه العقلُ، وهكذا غوغائيّة دمويّة آخر همّها استخدام العقل المغيّب عند هؤلاء الفئة ومن على شاكلتهم (متبوعين وتابعين) لجنون الدم والقتل، ألا بئس التابع والمتبوع.
وضمن سياق تاريخيّ وصولاً إلى الواقع المعاصر، فإنّ تلك الدعوات والتشريعات تظهر تراجعاً بحالة اقتران التكفير بإباحة قتل الكافر في كثير من مؤسّسات الأديان والمذاهب (بقي التكفير لأنّك لا تستطيع أن تخلعه لأنّه من طبيعة الفكر الديني في تقسيم الناس بين مؤمن وكافر) لكن في المقابل (سقط تشريع وتحرض قتل «الكافرين»)، وذلك ليس فضلاً من رجال الدين ومؤسّساتهم، إنّما بفضل السلطات العلمانية - الغربية التي سحبت الصلاحيات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة من يد رجال الدين، بل وضعت فوق ذلك تشريعات تردعهم وتعرّضهم للمحاكمة والمساءلة وتحمّلهم عواقب أيّ تحريض على القتل الديني أو (غيره بطبيعة الحال)، لأيّ شخوص تعتقد الكنيسة في أفكارهم وسلوكهم خطراً على الدين أو مَن يقع تحت تصنيفاتهم أنّه (كافر)، وهذا لا يعني أنّ بعض الكنائس والكنس ومعابد أديان أخرى لا تمارس التكفير بحقّ أيّ مؤمن، كان تابعاً لهم ثم خرج ومارس ما يظنّه رجال الدين كفراً، لكن هذا التكفير لن يضع حياة هذا التابع الخارج (الكافر) محلّ خطر، وذلك بسبب عدم وجود تحريض على القتل، وعدم وجود تشريع يبيح ذلك أو يمكن استغلاله دينياً وقانونيّاً.. وبصياغة أخرى: فإنّ العلمانيّة السياسيّة فصّلت بين حريتك أن ترى الآخرين ذاهبين إلى جهنّم ومطرودين من ملكوت الله، وبين منحك صلاحية وسلطة عليهم لقتلهم تحت ذريعة الكفر، التي تخصّك أنت ولا تخصّ قوانين الدولة العلمانيّة وحريّات الناس فيما يعتقدون.
بينما الحال في الدول العربيّة والإسلاميّة، أو غيرها من الدول التي لا تملك أنظمة علمانيّة تفصل الدين عن السلطات، فإنّ الحالة السائدة لطبيعة التكفير أنّه مدعوم ومصحوب ومقرون بقدرة /واحتمال/ وإمكان ممارسة القتل تحت ذريعة التكفير والردّة والمخالفة، وهي تشريعات فقهيّة تقف عثرة بوجه القانون، وتنزع سلطتين رئيستين من سلطات الدولة الرسميّة: (القضاء والتنفيذ)، وتجعل الناس تحت مقصلة تصنيفات متطرّفة، وهو ما يجعل التكفير هنا دعوة للقتل؛ ولهذا فإنّ التكفير يبدو مسؤولاً عن القتل، وهو كذلك طبعاً، لكنّه كان وسيلة لتبرير القتل في ظروف اجتماعيّة وقضائيّة وفقهيّة تسمح بممارسة فعل كهذا، أو أنّها على أقل تقدير تقف عاجزة عن التصدّي لحالة قتل الكافر، نظراً لوجود نصوص تبيح ذلك، ولا تقدر السلطات حتّى تاريخه من تحييدها أو إعادتها في سياقها التاريخيّ والتنازل عنها كنصوص إنسانيّة منسوبة إلى الدين وتستخدم اليوم ضدّ الإنسان والدولة معاً.
مع ازدياد عمليات القتل الديني، وارتفاع عمليات قتل الأقرباء تحت ذريعة التكفير، انتشر في مواقع التواصل الاجتماع وعلى اليوتيوب (فيلم صغير: يوضّح سماحة الأنبياء عليهم السلام بعدم قتل أقربائهم (الكافرين) بينما يمارس أتباع «تنظيم الدولة» قتل أقربائهم، ويخلص الفيلم إلى أنّهم: «يحسبون أنّ ما يفعلونه حق»)؛ والفيلم على وضوحه وإصابته في تفكيك ظنّهم الموهوم والباطل، لكنه يحيل (القضيّة والعلّة) إلى القاصر وليس إلى الوصي، إلى المنفّذ وليس إلى المدبّر المحرّض.. ومثلما لا يقف (الفيلم) على القضيّة الأساس، كذلك ينتشر خطاب لتفكيك حالات القتل التي تعقب التكفير دون الدخول في تفكيك قوّة التكفير عبر تشريعات أو فتاوى قتل (الكافر)، فالموضوع أو القضية الأساس ليس تطرّف أتباع التنظيم وغيرهم فحسب، بل الموضوع: أنّ الأنظمة العربية وأدبياتها وروح تشريعاتها الفقهيّة التي تفسّر على أنها تبيح قتل (الكافر أو المرتد أو المخالف..) أو تقف عاجزة للتصدي إلى فتاوى قتل (الكافر) نظراً لارتباط التشريع بالفقه من أوجه عدّة، وهي عاجزة ومكتوفة الأيدي حتّى الآن عن التصدّي للعلّة الأساس، الخطر الأساس في إباحة الدم، وهو تأويل النصوص وتفسيراتها الإنسانيّة التي تعطي رخصة لأيّ مؤمن أن يمارس هذا القتل تحت ذريعة التكفير، وتحت تحريض: «أنّ في ذلك أجراً عظيماً، بل هو أعلى درجة في الإيمان»، هكذا تحمل النصوص الفقهيّة ما يمكن تأويله لصالح جعل هذا الفعل (إزهاق نفس ودم وإطفاء روح) في مصاف أعلى درجة من الإيمان، كما يمكن رصده عبر تفكيك حديث (من رأى منكم منكراً فليغيّره...) وظرفه التاريخي وعلاقته بموضوعنا، (وهو ما يمكن الاستزداد به عبر مقال آخر مكمّل، يفكّك التفسيرات التي يعتمده التكفير في إباحة القتل، وصولاً إلى مناقشة الحال التاريخيّ للردّة، وأين تقف حجّتها الدينيّة من النصوص المؤسّسة في القرآن الكريم؟ وما يعارضها أو يؤيّدها في السيرة النبويّة، وما هو معناها في الوقائع التاريخيّة؟ والفروقات بين الردّة الدينيّة والردّة السياسيّة؟.)
الموضوع هو: (مراجعة ظروف نشأة حدّ الردّة السياسيّة، وكيف تحوّلت الردّة السياسيّة إلى مفهوم ردّة دينيّة، توضيح النصوص القرآنية التي لا تبيح قتل المخالف أو الذي يبدّل أو يخرج، وتشريع نصوص المشيئة العقديّة: (الحريّة الدينيّة)، ومراجعة كل الثغرات التأويلية والتفسيريّة والتاريخية التي يمكن أن يتسلل منها تبرير قتل (الكافر)، وما يمكن أن يكون سبباً في ذلك، على أن يكون ذلك جزءاً من عمل تشريعي سياسي) هذا هو الموضوع: أسباب القتل، وليس أسباب التكفير؛ فكلّ إحالة للموضوع بغرض تسليط الضوء على أسباب التكفير، كأنّ التكفير ظاهرة مؤقّتة وليس طبيعة عند رجالات وأدبيات كلّ مذهب ودين، فإنّ هذه الإحالة تحُول دون الوقوف على حيثيات وملابسات الموضوع الأساس المراد علاجه، وهو مرّة أخرى: أسباب القتل التابع للتكفير؟ هذه هي الظاهرة، لطالما تقدر الدول أن تقف بوجه هذه التأويلات الدينيّة وما يتفرّع منها ويمنحها سلطة التنفيذ في الواقع مع التبرير الديني، والتصدّي لكلّ نصوص تأويليّة تبيح قتل المخالف / الكافر، دون ذلك، فإنّنا نحاول أن نقف بوجه طبيعة الأشياء، التي لا يمكن لأحد أن يقف يقضي عليها نهائيّا، ثمّ نترك العلّة القاتلة المحرّضة للقتل، والتي يمكن استئصالها أو السيطرة عليها والحدّ من كونها ظاهرة تهدّد الأمن والسلم الأهلي.
- جدة