كان لكلِّ مدينةٍ من المدن التي زرناها طبيعةٌ خاصةٌ جعلتنا نشعر فيها في كلِّ مرة بروحٍ جديدة، ففي (إسطنبول) كانت الأصالة وجمال التراث حاضرين فيها، إضافةً إلى ما واجهناه من تعبٍ وإجهادٍ بسبب الأجواء الحارة نهارا، إضافةً إلى وعورة الطرق وضجيج المدينة، وفي (طربزون) كانت المغامرة والإثارة هما العنوان الأبرز للأيام الأربعة التي قضيناها فيها، أما (أوزنقول) محطتنا الأخيرة فكانت تفيض منها روح الهدوء والسكينة، وهو ما كنا في أمس الحاجة إليه بعد أيامنا العشرة.
قصدنا مطعماً قريباً من السكن، يتميز بإطلالةٍ خلابةٍ على المدينة، كان بالإمكان مشاهدة جزءٍ كبيرٍ من المدينة وتأمُّل مساحةٍ واسعةٍ من مياه البحر الأسود الذي تقع عليه المدينة، كان ذلك الإفطار المتنوع مع الشاي التركي بإبريقه المميز آخر العهد بـ(طربزون) التي ودَّعناها بعد ظهر تلك الجمعة منطلقين إلى (أوزنقول) التي كانت تبعد أقل من ساعتين.
كان يمكن تقسيم الطريق إلى هذه القرية الجميلة إلى ثلاث مراحل، حيث احتضننا في البداية طريقٌ سريعٌ مستقيمٌ يختال بين البحر والجبال، ثم انعطفنا تاركين البحر وراءنا ليستقبلنا أجملها، طريقٌ ممتعٌ تحدُّه الجبال الخضراء من الجانبين، وفيه استقامةٌ طويلةٌ تسمح لعيني السائق بالاستمتاع في جماله وروعة الطبيعة الخلابة التي تحاصره من كلِّ جانب، أما آخرها فقد كان استثنائياً من جهة جماله الطبيعي، حيث تسير فيه بمحاذاة جبلٍ ونهرٍ مَنَحَاه خصوصيةً متفردة، ولا يعيبه سوى تعرُّجه الشديد وتدرُّجه في صعودٍ يزداد صعوبةً كلما اقتربنا، ولهذا حرصتُ على التوقُّف أكثر من مرة لإمتاع النواظر بتلك الأجواء الرائعة والمشاهد المتميزة.
كانت عقارب الساعة تشير إلى تمام السادسة عصراً حين استقبلتنا (أوزنقول)، شعرتُ بأني في جنَّةٍ من جنان الأرض، لم أكن أتوقَّع نصف تلك المشاهد الحالمة، حيث كانت القرية تختال وسط الجبال، تتوسطها بحيرة الصنوبر التي تمنح القرية طبيعةً خاصة، محاطةً بالجبال والمروج الخضراء، كنتُ مدهوشاً من جمالها الفائق، وأيقنتُ أنَّ ختام هذه الرحلة سيكون أجمل من المسك.
كان السكن الخاصُّ بنا عبارةً عن كوخٍ خشبيٍّ كبيرٍ يقع على الطريق الرئيس للقرية، كان مقسَّماً إلى أربعة أقسام، في أعلى اليمين كان ينتظرنا القسم الخاص بنا، لأول مرة أخوض تجربة السكن في مثل هذا النوع من البيوت، شعرتُ بأني خارج الزمن، كانت الأوقات التي نقضيها فيه كالأحلام، وقتها شعرتُ بالسعادة التي كانت تغمر (هايدي) حين كانت تعيش في ذلك الكوخ الجميل وسط تلك الجبال الرائعة، كانت تجربةً لا يمكن أن تُنسى.
كانت القرية صغيرةً لا تحتاج إلى استخدام السيارة للتجول في أنحائها، فساعتان كافيتان لأن تمر على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ فيها، ولهذا ظلَّتْ سيارتنا واقفةً دون أن تتحرك متراً واحداً طوال مدَّة إقامتنا، كما يمكنك أن تستأجر دراجةً هوائيةً من إدارة الكوخ أو من المحلات المنتشرة لتستمتع باكتشافٍ سريعٍ لهذه القرية المختالة وسط جبالها شديدة الاخضرار.
كان الجو نهاراً بارداً تحاول شمس (أوزنقول) أن تمنحه نوعاً من الدفء الجميل، أما في المساء فقد كان البرد يزداد إلى درجةٍ لا بُدَّ معها أن تحتمي بملابس ثقيلةٍ دافئة، أما الأمطار فقد كانت بشكلٍ شبه يومي، غير أنها لم تكن غزيرة، بل أشبه برذاذٍ يزيد الأجواء خياليةً استثنائية.
كانت أعداد السعوديين تزداد يوماً بعد يوم مع اقتراب إجازة عيد الأضحى المبارك، حيث ظننتُ في الأيام الأخيرة أني في إحدى حدائق الرياض! وللأسف لاحظتُ أنَّ بعض العائلات تهمل أطفالها منشغلةً بالتجول أو التسوق، ففي أحد الصباحات كنا نتناول الفطور في محلٍّ متخصِّصٍ بصناعة الفطائر التركية الشهيرة، وحينها لاحظتُ طفلةً لا تتجاوز خمس سنوات يتبعها طفلٌ أصغر منها، كانا يبدوان هائمين لا يرافقهما أحد، وفجأةً انطلقت الطفلة نحو امرأةٍ سعوديةٍ يرافقها زوجها كانا يتهيآن لركوب السيارة معتقدةً أنها أمها، وهنا عرف الرجل وزوجته أنَّ الطفلين ضائعان، ولم يكن أمامهما إلا أن يلغيا كلَّ خططهما حتى إيجاد أهلهما.
استغرق الأمر أكثر من ساعة كنتُ فيها أرقبُ ما سيحدث، ومستعداً لأي مساعدة يمكنني تقديمها، وبعد انتظار لأكثر من نصف ساعة في مكان اللقاء اضطرَّ الرجل وزوجته إلى إركاب الطفلين معهما في السيارة والتجول بهما في القرية لعلهما يتعرفان على مكان سكنهما، وقبل أن ينطلقا طلبا مني أن أترقَّب من مكاني إن أتى أحدٌ يبحث عنهما، مؤكداً أنه سيعود إلى المكان نفسه إن لم يحالفه الحظ في العثور على عنوانهما، وبعد غياب نصف ساعة شاهدت سيارته تقبل من بعيد، وكنت أدعو الله ألا يكون معه الطفلان، إلا أنني رأيتهما في مكانهما من السيا رة، وقد بدا على الرجل آثار التوتر والقلق، وحين أخبرته أني لم أر أحداً يسأل عنهما رمقتُ خمس نساء يدخلن أحد المحلات ثم يخرجن متلفتات في كل جانب، وقد أتى الله بهنَّ إلى هذا المكان، فما كان من الرجل إلا أن فتح النافذة ليسألهنَّ إن كنَّ يعرفنَ هذين الطفلين، وقبل أن يكمل سؤاله صرختْ إحداهنَّ حين رأتْ المراكب الخلفية، وسرعان ما نزل الطفلان من السيارة معانقين أمهما في مشهدٍ مؤثر.
كانت (بلكونة) تلك الكوخ تمنح كلَّ شيءٍ طعماً آخر، فتناول (الكابتشينو) أو القهوة أو الإفطار في صباحٍ من صباحات (أوزنقول) البديعة في ذلك المكان الاستثنائي من أمتع لحظات هذه الرحلة الحالمة دون استثناء، كان كوخنا مطلاً على جبالٍ مغطاةٍ بالأشجار الخضراء، كان المشهد الذي أمامك عبارةً عن جبلٍ ملوَّنٍ بدرجاتٍ مختلفةٍ من اللون الأخضر، وكأنَّك أمام لوحةٍ فنيةٍ في غاية الدقة والإتقان، يزيدها حسناً الأجواء الصافية الباردة صباحاً والمعتدلة عند الظهر، كان الجلوس في ذلك المكان سياحةً بحدِّ ذاته، حيث الاسترخاء الذهني والتأمل العميق الذي يذهب بك خارج إطار هذا الزمن، وهو المقصد الأول من السفر في رأيي، فإذا ما تمَّ لك ذلك صار كلُّ شيءٍ بعده مجرَّد ترف.
في آخر صباحات (أوزنقول) كانت المشاعر مضطربةً بين كثيرٍ من الحزن وبعض الفرح، الحزن بانتهاء هذه الرحلة البديعة، خاصَّةً حين تفارق أجمل مدنها وأروع لحظاتها، أما الفرح فبالعودة إلى الوطن، وما أجملها من عودةٍ مهما بلغتْ الرحلة من جمال، كنا قد بلغنا يومنا الخامس عشر حين عدنا إلى (طربزون) التي سينقلنا مطارها الصغير إلى عاصمة الوطن الحبيبة، ازدان طريق العودة بحبات المطر التي جعلتْ ساعتي الظهر التي قضيناها فيه كالأحلام، كنتُ حريصاً على القدوم مبكراً إلى المطار لإنهاء إجراءات تسليم السيارة، ولأنَّ التبكير تجاوز المعقول قررنا أن نقضي ذلك النهار بين سوق (طربزون) الشهير والحديقة المقابلة له، كانت تلك اللحظات الأخيرة قبل الانطلاق إلى محطة الوقود، حيث يشترطون أن تكون السيارة ممتلئةً كما كانت عند استلامها.
في العاشرة والثلث مساءً أعلن قائد الطائرة التأهُّب استعداداً للإقلاع، وبعد أن تجاوزتْ الواحدة والنصف صباحاً كانت الطائرة قد حطَّت في مطار الملك خالد الدولي بعد أكثر من ثلاث ساعات قضيناها في طائرتنا الصغيرة التابعة للخطوط التركية، ورغم أنَّ الطفلة الصغرى قد أفسدتْ هدوء أول ساعة من الرحلة ببكاءٍ وصراخٍ هستيريٍّ مفاجئ تضايق منه جميع الركاب، وهو ما لم نجد له تفسيراً سوى الحزن على انتهاء هذه الأيام الجميلة! رغم ذلك إلا أنَّ الاعتياد على الطفلتين خلال أيام الرحلة جميعها، والفرحة بالعودة إلى الوطن، والسعادة بقضاء هذه الأيام الجميلة بين أجمل وأشهر المدن التركية دون صعوبات ولله الحمد، كلُّ ذلك خفَّف من توتُّر هذا الموقف الذي هدأ تدريجيا مع مرور الوقت.
وحين تجاوزت الثانية والنصف صباحا من اليوم السادس عشر من سبتمبر كنا نتجاوز عتبات بيتنا الجميل الذي شعرتُ بأنَّ كلَّ زاويةٍ فيه تتراقص بعودتنا، ولا أدري كم سنحتاج من الوقت لكي نخرج من أحلام تلك الرحلة الجميلة وخيالات أجوائها ومناظرها البديعة ونعود إلى أرض الواقع والحياة اليومية المعتادة في (الرياض) الجميلة بزحامها الدائم، وحفريات شوارعها المتناثرة، وحرِّ شمسها اللاهب.
***
كلُّ ما في هذه الرحلة كان جميلا، بكلِّ تفاصيلها ومشاهدها، ستبقى في الذاكرة كأول رحلةٍ إلى (تركيا)، وأول رحلةٍ خارجيةٍ برفقة الأطفال، لم يشنها غير أمورٍ صغيرة لا تكاد تُذكر أمام روعتها المتفردة، منها قرار اصطحاب الأطفال الذي كان مغامرةً ضاعف من الإجهاد والتعب الذي يواجه المسافر عادة، رغم أنَّ وجودهم منح الرحلة نكهةً خاصة، ومنها الأجواء الحارة التي قابلتنا في (إسطنبول) و(طربزون)، حيث علمتني تلك الأجواء أنَّ النصف الثاني من سبتمبر هو الموعد الأنسب لزيارة هذه المدن اللطيفة، أما أسوأ ما واجهته في تركيا فهو التعامل الجاف الأجوف من أغلب الشعب، كنتُ أسمع عن هذا وأعتقد أنه لا يعدو تصرفاتٍ فرديةٍ حصلت للبعض فأطلق الحكم على العموم، غير أنني لمستُ هذا بنفسي من خلال تعاملي مع كثيرٍ منهم، بدءاً بموظفي المطار، ومروراً بأصحاب المحلات والمطاعم، وانتهاءً بأصحاب سيارات الأجرة الذين وجدتُ فيهم أعلى درجات الغلظة والفظاظة في التعامل مع السياح ومع السيارات الأخرى في الطريق، لم أكن أعي سبباً واضحاً لهذا الجفاء والجفاف سوى الحالة الاقتصادية السيئة التي يعاني منها كثيرٌ منهم، كما يمكن أن يكون ذلك عائداً إلى طبيعة شخصياتهم وتكوينهم النفسي، كما يمكن أن يكون لأيام عزِّهم وقوتهم في سالف الزمان دورٌ في اتصافهم بهذه الأخلاق القاسية، على أني قابلتُ منهم مَن أحرجني بتعامله الطيب وأخلاقه الجميلة.
الرياض - Omar1401@gmail.com