الثقافية - عطية الخبراني :
في كل فاجعة يفجع فيها العالم العربي برحيل علم ثقافي أو أدبي أو فكري يعود إلى الواجهة السؤال الأزلي حول ما جدوى الاحتفاء بالأعلام بعد رحيلهم، وما جدوى كل ما يكتب عنك بعد أن توسد التراب مودعاً هذا العالم بخرائبه وانتصاراته وخيباته ونجاحاته وسقطاته، إذ يعمد محبو هذا العلم وربما شانؤوه حتى إلى تأبينه والحديث عن مواقفه الإنسانية والفكرية، ونشر مقولاته وصوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وإظهاره كرمز خالد يستحق كل مواكب العزاء ومقولات التأبين الحزينة والمكلومة لرحيله.
إن الحديث عن عدم جدوى تكريم من رحل لا يعني بالضرورة تجاهله حياً وميتاً، بل الأجدر والأكرم بمن أفنى حياته يصول ويجول في فن من الفنون أن يكرم وهو لا زال يرى ويسمع كل هذه الأصوات المحتفلة به وبأدبه وفنه وفكره، يعيد بها ذكرى كل كتاب كتبه وكل محاضرة ألقاها وكل مداخلة ثرية قدمها في حياته، وربما قال قائل: إن هذا الجحود قد عرف به العالم العربي منذ سنين طويلة، فلا يلتفت للباحث والمفكر والعلم إلا بعد أن تمضي السنوات أو حين تحمله الأكف على الأكتاف، ليظهر من كان يتجاهله حياً ليحتفي به ميتاً، وفي الأعوام الأخيرة تحول الأمر إلى ما يشبه الموضة أو الصرعة، فما إن يتوفى علم حتى يفزع الجميع للتفتيش في كتبهم ودواوينهم لكتابة اقتباس أو مقولة عابرة يزين بها صفحته على مواقع التواصل، وربما تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك ليقول هذا أو ذاك إن الراحل قد أثر في حياته أو غير نمط تفكيره بكتابه الفلاني أو برنامجه الفلاني، والأمثلة في ذلك كثيرة ولا حصر لها.
إن صحيفة الجزيرة ممثلة في مجلتها الثقافية قد عرفت منذ سنواتها الأولى بخطها التكريمي الذي انتهجته مبكراً للاحتفاء بالأحياء وقد أنتجت في ذلك مئات الملفات في أعدادها الأسبوعية وطبعت المؤلفات البحثية عن شخصيات ثقافية وأدبية وفكرية، ولعل المتابع للمجلة يعود لإرشيفها ليجد المئات من الملفات التي شارك بها مئات الكتاب من كافة أرجاء الوطن العربي، وإنها إذ تنشر هذه المادة فإنها تهيب بكافة الكتاب في الوطن العربي بالاحتفاء بتجارب المبدعين والكتابة عنهم قبل رحيلهم، لعل الظاهرة تتغير، والجحود ينمحي، وتعلو لغة الوفاء والإبراز والتكريم، على لغة النكران والجحود والتعتيم، لنرى في كل قاعة مكرم وفي كل صحيفة علم.