أن تخرج أول ما تخرج من محيط بيئتك الأعمق، وتركب وحدك أول ما تركب وحدك طائرة تحلّق بك إلى بلاد لم يزرها أحدٌ من أهلك وأنت في الخامسة عشرة من عمرك (كما في سيرة سيف بن أعطى) ولا هدف لك إلاّ (الخروج من المرآة).. فأنت تمازح المسافات!
وأن تضمر في نفسك، أكثر من ثلاثين عاماً، رغبة إلى نقطة أبعد حالت بينك وبينها سنوات عمرك التي لم تكن قد وصلت بك إلى السن القانونية المسموح بها للسفر بمفردك، ثم تتحين فرصة – أو بالأحرى تختلقها – لتضع نفسك على المقعد المختطف منكَ زمناً، قاطعاً ذلك المشوار المؤجل بمشوار يتعطل بك في دوحة من (ترانزيت) لتنتقل من مرحلة ما قبل المشاوير إلى مرحلة ما بعدها من جراحات الحياة.. فأنت تمازح المسافات!
أن تعزف عن الذهاب إلى معرض كتاب يقام على مقربة من نزلك – وهو الأكثر جدوى على كل الصعد – وتشدّ الرحال على جناح يطير بك شرقاً فانتظاراً فغرباً فشمالاً إلى معرض آخر لكتاب آخر لا تجد فيه من أحد يصفه إلا بالموات. فكل شيء كأنه لم يكن، والزوار كأنهم مجرد عابرين وعابرات، والعارضون كأنهم مجرد بائعين وبائعات؛ أمّا صناعة الكتاب ونشره فكانت في غياب تام مع سبق الإصرار بلا تردد.. فأنت تمازح المسافات!
أتكلَّم عن معرض تونس الدولي للكتاب المقام مؤخراً بأرض الكرم في العاصمة تونس، لم أزره في عشرة أيامه التي أمضيتها هناك سوى يومين، والواقع أنني كنتُ كمن يتورّط بالدخول كلما دخل ويقضي فترة وجوده داخل المعرض باحثاً عن بوابة الخروج.
هل فعلاً سأتكلم عن معرض تونس الدولي للكتاب؟ طبعاً لا، فالكلام عن تونس الخضراء أوْلى.. بينما نحن الآن في الربع الثاني من العام 2015 ثمة مكتشَفٌ بأنّ لا يزال في العالم بعض أماكن تستحق صفة الاخضرار والزرقة، طبيعة ترابية وجوّاً وبحراً؛ غير أن العالم قد تتركه جانباً رغماً عنك حين تكون هناك(!). كيف؟
تبحث عن الأشياء المألوفة لديك، بصفتك الكائن الآتي من جزء أو أجزاء من كتلة العالم، فلا تجدها.. في السكن لا تجد فنادقك المعروفة بانتشارها في العالم.. في المأكل لا تجد شيئاً مما اعتدت.. حتى في الشاي والقهوة تضطر أن تتعب كثيراً حتى تصل إلى ما يشبه عادتك أو مزاجك.. والعادة والمزاج قد تكونان الأدهى عند من هم مثلي حتى من العملة والنقد. باختصار: تذهب في رحلة من التيه بصحبة بطاقاتك الائتمانية باحثاً عمّن يقبل بها أو عن ماكينة تصرف لك بعض (الكاش) وتصدمك بأنك تجاوزتَ حدك..!
هل سأتكلم عن الجمهورية التونسية كما رأيتها الآن؟ بالطبع لا؛ فكلامي هنا عن المسافات التي تمازحها، أيها المسافرُ وحدك، حتى تكتب قصيدة تكوَّن مطلعها قبل أن تكتمل أدواتك ونسيتَ إيقاعها بعد أن أخذتك التسلية إلى مسافاتٍ تلتفُّ حول عنقك لتجعلكَ قريباً جداً من كل الأرواح التي غادرت إلى هناك وأنت تلوّح لها بأجفانك وتعتصر عينيك ببضع قطرات من ذاكرة متحجرة لم تعد تتسلى بغير ممازحة المسافات.
هل كنتَ وحيداً؟
- لا تقل: كنتُ وحيداً.
فأنت محاطٌ دائماً بالطيور التي تبني أعشاشها على مقربةٍ من الماء.
- مكة المكرمة
ffnff69@hotmail.com