خامسا: الصراع في الوعي
تطرقنا سابقا إلى الحركة الدائمة في الطبيعة والمجتمع التي سماها الفيلسوف الألماني هيغل الديالكتيك.
كلمة ديالكتيك تعني حرفيا (جدل)، وفي قاموس المعاني: (فن الجدل والحوار) ويضيف القاموس (طريقة من طرق التفكير، تعمل على تحليل الواقع والظواهر الاجتماعية على أساس تناقضاتها، وذلك من أجل تجاوزها).
توجد التباسات عديدة في المعنى الحرفي أولا وفي الفهم الخاطئ للديالكتيك الذي أشاعته الرأسمالية عن طريق القواميس أو الوسائل المطبوعة الأخرى، وكذلك الوسائل المسموعة والمرئية والجامعات فيما بعد.
لقد أطلق هيغل (1770 - 1831م) اسم جدل خطئاً على الديالكتيك الذي اكتشفه بنفسه، حيث كان يعتقد أن الوعي هو أساس التجربة الإِنسانية وليس العكس، لذلك اشتق الاسم من القانون الأساسي للديالكتيك، ألا وهو وحدة و(صراع) المتناقضات.
الصراع ليس جدلاً أو حواراً، فإذا استكملنا القانون الهيغلي ذاته نجده يقول (يقضي أحد المتناقضين على الآخر ليصنع نقيضاً جديداً يقبر الأول وتتكرر هذه العملية لتنتج الحركة الدائمة التصاعدية).
الحركة الدائمة التصاعدية في الكائنات الحية سماها داروين الصراع من أجل البقاء ونتيجتها الارتقاء، وسميت في المجتمع صراع الطبقات والتطور الدائم. لذلك إذا أردنا التوصيف الدقيق للديالكتيك نقول هو الحركة التصاعدية الدائمة، أي التطور ذاته سواءً في الطبيعة أو المجتمع.
أما المسببات التي اكتشفها هيغل، كقانون صراع المتناقضات أو نفي النفي أو التراكم الكمي يؤدي إلى تغير كيفي، فهي كلها آليات لإنتاج الحركة الدائمة.
الصراع إذن هو آلية من آليات التطور وليس التطور ذاته، كما أن هيغل كان يتحدث عن الديالكتيك في الطبيعة بالدرجة الأولى وهو منفصل عن الوعي تماماً، فلا يوجد وعي إلّا لدى الإِنسان، ولكن مثالية هيغل أي اعتقاده أن الوعي هو أساس كل شيء جعلته يرتكب هذه الخطيئة بحق الديالكتيك الذي اكتشفه هو نفسه.
أقول الخطيئة وليس الخطأ لأن هذا الفعل الهيغلي انعكس على الفكر الإِنساني كله خصوصاً مفكري عصر النهضة. كما استغلّته الرأسمالية أبشع استغلال فانتشر المفهوم المغلوط للديالكتيك ليس في القواميس (المحايدة) وحسب، بل في المؤسسات التعليمية إجمالا.
التعليم قبل عصر في أوروبا كان تلقينياً، أي قل كذا ولا تقل ذاك وليس فكرا ثم قل ما شئت، وخلال النهوض الحداثي للرأسمالية واعتماداً على تعاليم ابن رشد أصبحت عملية المعرفة تتخذ الديالكتيك (الحقيقي) منهجاً، فهي تبتدئ بالملاحظة ثم الفرضية ثم التجربة ثم النظرية، وتعود النظرية الناتجة لتخضع مجدداً للملاحظة وتستكمل دورتها التالية لتنتج نظرية أرقى من الأولى... وهكذا في مسيرة ارتقاء مستمر. ولكن بعد انتشار الاستعمار، أي ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا عادت الرأسمالية لتنشر التعليم التلقيني ليس في أوروبا وحسب، بل في العالم كله خصوصاً في المستعمرات كي تطيل عمر تسلطها المافيوي وتنتج الإرهاب.
من مصلحة المافيا الرأسمالية إلقاء القبض على الوعي الإِنساني، وتوظيف العملية المعرفية الديالكتيكية (الحقيقية) في المجالات التي تخدم الربح فقط، وتحاربها في المجالات الأخرى لمنع التطور، فهل تستطيع إدخال الفيل في خرم إبرة؟
سادسا: الوعي المشوه
الوعي ليس مطلقاً كما ظنّ هيغل، فهناك وعيان رئيسيّان: وعي المتسلطين ومن يدور في فلكهم ووعي المضطهدين ومن يساندهم، وكلاهما نسبي وليس مطلقاً، وهما متناقضان ويجري صراع مرير بينهما، وعندما ينتصر وعي المتسلطين وأذنابهم يكون المسار المتموج للتطور الاجتماعي قد دخل في الموجة الهابطة، أما عندما ينتصر وعي المضطهدين تندلع الانتفاضات أو الثورات ويحدث الانتقال إلى الموجة الصاعدة، أي النهوض الجماهيري الذي يؤدي إلى التطور.
يستخدم المتسلطون تشويه المفاهيم والمصطلحات كمنهج لخدمة أغراضهم، أما المضطهدون فهم أصحاب المصلحة في وضع المفاهيم في نصابها الحقيقي وتطويرها.
من السهولة رؤية التلاعب الممنهج بالمفاهيم من جانب المتسلطين في عصرنا الحالي، وذلك من خلال ملاحظة الامتناع الأمريكي والأطلسي عن المشاركة في مؤتمرات تهدف لتعريف واضح لمصطلحات مثل الإرهاب والحكومات المارقة والديكتاتورية والديمقراطية وغير ذلك، والتي تفعل فعلها كل يوم في حياتنا من أجل إبقائها مرهونة بالتصنيف المافيوي الأمريكي فقط.
وعي الفئات المضطهدة هو الأساس في التطور الاجتماعي، ويتطلب تضحيات جسيمة لنموه وتحقيق التطوير، فقول الحقيقة قد يكلفك حياتك. ولكن هل ينجح النشاط الثوري في تطوير الوعي دائماً؟ بالطبع لا فهو معرض للتحريف والتطرف والتكبيل أو الشلل أو غير ذلك.
لقد بدأ تشويه الوعي الثوري لعصر النهضة من أيَّام ماركس التلميذ النجيب لهيغل، الذي طوّر الديالكتيك ووضع الخطوط العريضة لمسار التطور الاجتماعي في ظل النظام الرأسمالي وما بعده. ولكن ماركس اضطر قبل وفاته بفترة وجيزة أن يقول (أنا لست ماركسياً).
يقول داود تلحمي (الحوار المتمدن 2010.7.7 العدد 3056 ): بعد إقرار برنامج.. الحزب «العمالي الفرنسي» الجديد، نشأ خلاف بين ماركس وقادة هذا الحزب حول الغرض من القسم الخاص بالجانب الاقتصادي في الوثيقة. فبينما كان ماركس يرى أن المطالب المتضمنة في هذا القسم يمكن ان تشكل مادة تعبئة في الوسط العمالي باعتبار انها قابلة للتحقيق في أمد زمني غير بعيد وفي إطار النظام الرأسمالي نفسه.. رأى الزعيم العمالي الفرنسي في هذه المطالب العمالية المباشرة وسيلة لفضح التيار السياسي المسيطر في فرنسا بحيث يقود الرفض الذي يتوقعه لهذه المطالب من قبل هذا التيار إلى «تحرير البروليتاريا من آخر أوهامها الإصلاحية وإقناعها باستحالة تفادي 89 عمالية».
المقصود بـ 89 عمالية كما يضيف تلحمي (ثورة عمالية على غرار الثورة البرجوازية الفرنسية عام 1789) .
كان ماركس قابعاً تحت الإقامة الجبرية في لندن عندما جاءه (جول غيد) زعيم الحزب الفرنسي وصاغا معاً تلك الوثيقة، ثم جرى تعديلها في مؤتمر الحزب في فرنسا، فوجد ماركس في ذلك التعديل ليس إهانة لشخصه، إنما قفزاً فوق تراكم التجربة وحرقاً للمراحل الضرورية للتطور، فانتفض وقال جملته الشهيرة (أنا لست ماركسياً).
لقد أكد ماركس من خلال صرخته تلك أن الطبقة العاملة هي التي تصنع الثورة، ولا يصنعها مفكر أو ناشط مهما كان عبقرياً، كما أن النظرية لا يمكنها أن تكون نتيجة الرغبة، إنما نتيجة التجربة وبناءً على المعطيات المتوافرة في المرحلة التاريخية المعينة.
وقف ماركس مسانداً لكمونة باريس على الرغم من يقينه بفشلها، وذلك لأنه اعتمد الديالكتيك منهجاً، وليس الثوروية (التطرف أو استباق المراحل) كما فعل زعيم الحزب الفرنسي، ولم يجب عن سؤال عن إمكانية تحقيق انتصار الاشتراكية في بلد واحد، ولكنه أطلق الصرخة المشهورة «يا عمال العالم اتحدوا» وكأنه يشم رائحة العولمة قبل أن تحدث، فجاء لينين ليؤكد عدم إمكانية تحقيق الاشتراكية دون تضافر جهود بروليتاريو كل العالم، إنما يمكن إسقاط سلطة البرجوازية في بلد واحد وإقامة سلطة البروليتاريا مكانها، فهي صاحبة المصلحة في استكمال المرحلة البرجوازية إلى النهاية.
من أين جاءت فكرة تحقيق الاشتراكية في بلد واحد إذن؟
يقول ماجد الشمري في مقال بعنوان (في بيتنا برجوازي صغير (....) متمركس) نشر في الحوار المتمدن العدد 4611 في 22/10/2014 اعتماداً على مقال لزينوفييف الذي كان عضواً للجنة المركزية: (لم تكن فكرة «الاشتراكية في بلد واحد» اجتهاداً لستالين أو بوخارين، فقد نادى بها لأول مرة الاشتراكي القومي الألماني هنري فولمار1922 - 1850م وطرحها منذ عام 1878 كمشروع للتحقيق في ألمانيا. وكانت الجذر الأيديولوجي والسياسي لحزب هتلر الاشتراكي الوطني (النازي)... في المؤتمر الرابع عشر (للحزب الشيوعي السوفيتي) في كانون الأول 1925م وقفت المعارضة بشراسة ضد فكرة الاشتراكية في بلد واحد التي طرحها ستالين وأيدها بوخارين).
وفي موقع آخر يقول الشمري (في اجتماع اللجنة المركزية المنعقد بداية تشرين الأول كتحضير للمؤتمر الرابع عشر أربعة من اللجنة المركزية وهم: زينوفييف وكامنييف وسكولنيكوف وكروبسكايا، قدموا اقتراحاً مشتركاً لإقرار نقاش علني وحر، يمكن أعضاء الحزب - القاعدة بالذات - لإعطاء آرائهم واقتراحاتهم بشأن القضايا المطروحة في جدول أعمال المؤتمر، كنقاش تمهيدي، وهو نهج ينسجم مع أعراف ونظام الحزب. إلا أن اللجنة المركزية رفضت ذلك بإيحاء من ستالين وبوخارين. وفي تلك الفترة كان زينوفييف قد أصدر كتابه «اللينينية» والذي يقول فيه الاشتراكية في بلد واحد هي فكرة طوباوية محض.. وفي نفس الوقت ارتداد عن فكرة الثورة البروليتارية العالمية، وهذا بدوره يعني رفض الإعداد لها وحتى منع قيامها حفاظاً على المصالح القومية الأنانية!. وهذا ما حدث فعلاً بالنسبة للصين: فقد ذبح العمال الشيوعيون الصينيون على يد السفاح (الديمقراطي الوطني) تشانغ كاي تشك، والحزب والكومنترن متضامنان معه!!!. وجرى في بلدان أخرى مثل: ألمانيا وإسبانيا واليونان وإندونيسيا والعراق وغيرها).
......................................................يتبع
د. عادل العلي - الرياض